الأحد، ديسمبر 16، 2012

قراءة في كتاب "ثمن الخوف: القاعدة وحقيقة الحرب المالية على الإرهاب" لإبراهيم وردة


ما تزال أحداث 11 سبتمبر 2001 تلقي بظلالها على المشهد العالمي بأسره، وما فتئ الغموض يحيط بهذه الأحداث التي شاهدها العالم قاطبة على شاشات التلفزة على الهواء مباشرة، ولم تفلح آلاف الصفحات في كشف النقاب عما جرى، وعما ترتب على ما جرى، إلا في شذرات متناثرة تلقي الضوء على بعض الجزئيات هنا وهناك لعلها تسهم في رسم صورة كاملة لما يمكن أن يكون قريبا من الحقيقة.

وفي هذا السياق يأتي كتاب "ثمن الخوف: القاعدة وحقيقة الحرب المالية على الإرهاب" لمؤلفه إبراهيم وردة، الأستاذ المساعد في جامعة تافتز بولاية ماستشوستس الأمريكية، والذي يتناول الجانب الأكثر سطوعا من الحرب على الإرهاب (على الأقل حتى تاريخ نشر الكتاب في عام 2007) وهو ما أسماه الكاتب الحرب المالية على الإرهاب.

بعد انجلاء الغبار عن ركام برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، بدا الرأي العام الأمريكي والعالمي في حالة ترقب لردة الفعل التي ستصدر عن القوة العظمى في هذا العالم بعد أن اعتُدي عليها في عقر دارها للمرة الأولى بهذا الحجم الهائل. كانت المشكلة تتمثل ببساطة في غياب الكيان المادي/ الفيزيائي للعدو الذي ينبغي لواشنطن أن تصب جام غضبها على رأسه، وبعد بحث قصير تقرر أن تكون الحرب على أفغانستان "لأن النصر فيها سيكون سهلا" كما قال أحد القادة العسكريين الأمريكيين آنذاك.


وضمن مسعى الرئيس جورج بوش الابن لتحقيق انتصار سريع فيما أطلق عليه اسم "الحرب على الإرهاب"، أعلن المذكور في مؤتمر صحفي شهير عن بداية الحرب المالية على الإرهاب منطلقا من مبدأ لا يستطيع المرء أن يختلف معه، وهو أن المال هو عصب الإرهاب؛ ولا سبيل لكسر شأفة الإرهاب إلا بقطع المال عنه وبالتالي تجفيف منابعه، وهنا وقع الاختيار على أسامة بن لادن ليكون أيقونة هذه الحرب الجديدة.

لا يدافع الكاتب عن أسامة بن لادن بقدر ما يحاول إثبات أن الغالبية العظمى من معلوماتنا عنه –المستقاة من وسائل الإعلام بالطبع – ليست سوى أوهام. ويسوق الكاتب مثالا على التضليل الذي مارسه الإعلام الأمريكي بحكاية الثروة التي كان يملكها بن لادن والمقدرة بمبلغ 300 مليون دولار، حيث يقدم من الأدلة ما يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن "ثروة" أسامة بن لادن كانت أقل من ذلك بكثير، ولكن ضجيج الإعلام الهادر يطغى كل صوت عداه.

ثم تناول الكاتب الخطأ الذي وقع فيه الساسة الأمريكيون عندما ربطوا الإرهاب بغسيل الأموال، وتعاملوا مع الأول بذات الوسائل التي استعملوها مع الثاني رغم أنها كانت فاشلة في الحالتين. وأوضح وردة أن البون شاسع بين غسيل أموال المخدرات وبين توفير أموال لتنفيذ الأعمال "الإرهابية" من حيث الدافع والأسلوب المستخدم والنتيجة، وهو ما يبقى بعيدا عن أذهان "المحاربين الماليين" كما أسماهم.

وأورد وردة مثالا ناصعا على التسرع في الوصول إلى نتائج إيجابية ذات شعبية في الحرب المالية على الإرهاب، وهو إعلان الرئيس بوش عن إغلاق مؤسسة "البركة" للخدمات المالية التي كانت تمارس تقديم خدمة الحوالات المالية للعاملين الصوماليين في الولايات المتحدة وغيرها إلى بلادهم عن طريق أحد المصارف في دبي. لقد سارع بوش إلى تصوير إغلاق هذه المؤسسة ومصادرة أموالها وتحويل العاملين فيها للتحقيق على أنه نصر مبين، وأكد أن هذه المؤسسة كانت تمثل شريانا حيويا للقاعدة تنقل من خلاله الأموال التي تستخدمها في تسيير شؤونها والتخطيط لعملياتها. ولم يقصر الإعلام الأمريكي والعالمي في تضخيم القضية حتى ظن الناس أن القاعدة أمست على حافة الإفلاس، وأن أسامة بن لادن بات قاب قوسين أو أدنى من تسليم نفسه للعدالة. ولكن هذا الإعلام، الذي ملأ الدنيا ضوضاء، ران عليه صمت مطبق عندما تبين أن "البركة" كانت بريئة من كل ما نسب إليها من تهم، ولم يخرج بوش ولا مساعدوه على الملأ ليعلنوا أنهم قد أخطأوا وأساؤوا التقدير.
مؤلف الكتاب إبراهيم وردة

أما مسألة الجمعيات الخيرية الإسلامية فتمثل دليلا على التخبط الذي يحكم السياسة الأمريكية في مرحلة الاحتكاك المباشر بالإسلام (ايديولوجيا) وبمنطقة الشرق الأوسط (جغرافيا)؛ فقد أصر كبار مسؤولي المخابرات الأمريكيين على أن المعرفة بالدين الإسلامي واللغة العربية ليست ذات صلة بالتعامل مع المنظمات والجماعات الإسلامية أو حتى التعرف على أفكارها وأهدافها. وهكذا لم يستطع الأمريكيون أن يستوعبوا، على سبيل المثال، شعيرة أساسية من أركان الإسلام هي الزكاة والصدقات، والتي يعرف أصغر طفل مسلم أن تقديمها لمستحقيها في السر خير من دفعها إليهم في العلن، لكن المخابرات الأمريكية تعتقد أن الامتناع عن الإفصاح عن مصارف الزكاة إنما يدخل في إطار ممارسات غسيل الأموال وتوجيه الدعم للمنظمات الإرهابية. ويزداد الأمر سوءا عند الحديث عن الجمعيات الخيرية الإسلامية التي تعنى برعاية الأيتام، ومن بينهم أبناء وبنات منفذي العمليات الاستشهادية التي كانت تنفذها بعض التنظيمات الفلسطينية في تجمعات للإسرائيليين، حيث لم يكن ثمة فائدة من محاولة إقناع الأمريكيين بأن رعاية الأيتام شيء ودعم "الإرهاب" شيء آخر.

أما المفاجأة الكبرى التي يوردها الكاتب على صفحات كتابه فهي أن ما روجت له الإدارة الأمريكية حول دور المال في الإرهاب ليس سوى ذر للرماد في العيون، حيث أن التكلفة الإجمالية لأحداث 11 سبتمبر لم تتجاوز نصف مليون دولار، ولم تكلف هجمات مدريد عام 2004 أكثر من عشرة آلاف دولار، بينما بلغت تكلفة هجمات لندن عام 2005، والتي أسفرت عن مقتل 52 شخصا وإصابة 700 آخرين، ألف دولار فحسب! 

وثمة مفاجأة أخرى تثير ريبة القارئ حول مفهوم الحرب المالية على الإرهاب بمجمله، وهي أن أثر هذه "الحرب" لم يكن محدودا بل كان عكسيا، حيث ارتفع عدد العمليات "الإرهابية" حول العالم بنسب تتراوح بين 35% و400% بين عامي 2001 و2004 بالرغم من كل عمليات تجفيف المنابع. ولعل أبلغ وصف لنتيجة هذه الحرب هو أنها حققت "نجاحا كارثيا"، هذا إن كانت حققت أي نجاح يذكر.

بقي أن نذكر أن هذا الكتاب منشور باللغة الإنجليزية ابتداء، ومترجم إلى اللغات اليابانية والإيطالية والفرنسية والتشيكية حسبما يذكر موقع مؤلف الكتاب. ومن المؤسف حقا أن خمس سنوات قد انقضت دون أن يُترجم الكتاب إلى اللغة العربية رغم أنها الأولى به والأكثر ارتباطا بمضمونه، وكاتب هذه السطور على استعداد للمساهمة في أي عمل يخرج هذا المؤلف القيّم إلى النور بلغة الضاد.

ليست هناك تعليقات: