الجمعة، ديسمبر 21، 2012

الآثار الاقتصادية لإصدار الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس (DSM-5)

ألين فرانسيس*

تستعد جمعية الطب النفسي الأمريكية لإصدار النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي (DSM-5)، والذي يعد المرجع الأول في تشخيص مختلف الاضطرابات العقلية، ولكن الجمعية فيما يبدو لا تلقي بالا للمبالغ الكبيرة التي سيتسبب هذا الإصدار في إنفاقها.

تترتب آثار اقتصادية كبيرة على ترسيم الحدود الفاصلة بين ما هو طبيعي وما يدخل في تصنيف الاضطرابات العقلية؛ فتشخيص المرض العقلي يعني فتح أبواب الإنفاق على مصاريعها لدفع تكاليف مراجعة الأطباء، وإجراء الاختبارات، وتلقي العلاجات (والتعامل أيضا مع آثارها الجانبية)، والطب الشرعي والسجون، والاعتبارات الخاصة بالإعاقات، وتخصيص الموارد التعليمية، والتغيب المستمر.

إننا نواجه بالفعل تضخما في التشخيص النفسي ومبالغة كبيرة في استخدام العقاقير النفسية التي تكون في أغلب الأحيان مرتفعة الثمن ومؤذية وغير ضرورية.


والآن، من المتوقع أن تحتوي النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضرابات العقلية (DSM-5) على فئات جديدة من المرض العقلي ذات معدلات انتشار مرتفعة بين عموم الناس. تشخيص جديد هنا، وتشخيص جديد هناك، وقريبا سيصبح لدينا الملايين من المرضى ونفقات بمليارات الدولارات.

وعلى ما يبدو فإن أي تغيير طفيف في الدليل التشخيصي والإحصائي يحدث فارقا كبيرا. على سبيل المثال، سوف يتحول الشعور العادي بالحداد إلى "اضطراب اكتئابي رئيسي"، وهكذا فإن العقاقير وسائر الطقوس الطبية سوف تستخدم في التعامل مع ردة الفعل الطبيعية لإنسان فقد أحد أحبائه.

لم يعد الإفراط في الطعام أكثر من عشر مرات في ثلاثة أشهر مجرد شره زائد وإنما سيصبح أحد "اضطرابات الأكل الحادة". النسيان المتكرر لدى كبار السن سوف يتحول إلى "اضطراب عصبي معرفي بسيط"، وسوف ينضوي تحت لواء هذه التسمية عدد هائل من المرضى الجدد (جزء صغير منهم مهددون بالإصابة بالخرف)، وهذا يترتب عليه تكاليف ضخمة لعمليات تصوير الدماغ دون طائل لمرض ليس له من علاج فعال أصلا.

"المرضى" الجدد

وعلى الطرف الآخر من المنحنى العمري، سوف تتحول نوبات الغضب لدى الأطفال إلى "اضطراب المزاج التخريبي غير المنتظم". الأمثلة السابقة ليست سوى عينة صغيرة من التغيرات الكبيرة التي سيحدثها الدليل الخامس، والتي ستتسبب في ظهور الملايين من "المرضى" الجدد، رغم أن غالبيتهم سيكونون على ما يرام دون الحاجة للمعالجات المكلفة وربما المؤذية أيضا.

كما سيشجع الدليل الجديد الأطباء على الخلط في التشخيص بين الاضطرابات الجسمية والاضطرابات النفسية من خلال إيجاد فئة جديدة عريضة تضم المرضى الذين يشعرون بالقلق من الأعراض الطبية التي يعانون منها.

لم يقم أحد لغاية الآن بحساب التكاليف المالية المباشرة وغير المباشرة التي سيتكبدها الاقتصاد الأمريكي بسبب إصدار الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس، والمشكلة أن إنفاق الأموال سيكون في المكان الخاطئ.

إن موارد الصحة العقلية لدينا، على محدوديتها، موزعة على نحو غير منطقي. نحن نترك الأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية واضحة بينما نفرط في معالجة الأفراد الأصحاء. الكثير من المرضى النفسيين ينتهي بهم المطاف في سجوننا المكتظة أصلا لتنفق الدولة على الفرد الواحد منهم في السجن سنويا أكثر مما تنفق على الطالب في جامعة برينستون العريقة.

إن استمرار الدليل التشخيصي والإحصائي في قضم أجزاء من المساحة الواسعة المخصصة لفئة الأفراد "الأصحاء" إنما يؤدي في الواقع إلى تحويل المزيد من الأموال بعيدا عن أولئك الذين يستحقونها بالفعل.

كيف سيؤدي إصدار الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس إلى زيادة النفقات؟

أولا، هناك التكاليف المباشرة وغير المباشرة لمعالجة الأفراد الذين سيتم تشخيصهم بالمعايير الجديدة. وسوف تتضخم هذه التكاليف مع توسعة غطاء التأمين الصحي بموجب قانون الرعاية الصحية ليشمل 34 مليون أمريكي إضافيين، خاصة مع اعتماد العلاج الشامل للاضطرابات العقلية ضمن فئات التأمين.

لا جدال في أن هذا التغير إيجابي ومفيد؛ فثمة حاجة ماسة لضخ المزيد من الاستثمارات لتطوير قطاع الصحة النفسية المتردي. لكن في المقابل ينبغي أن تكون التكاليف معقولة أو يكون إنفاق الأموال في القنوات التي تعود علينا بالنفع الحقيقي.

وهناك أيضا التكاليف الطبية غير المباشرة والتي ترتبط بمعالجة مضاعفات الاستخدام المفرط للعقاقير، حيث أن العقاقير النفسية تتسبب في العادة في زيادة الوزن التي يمكن أن تقود للإصابة بمرض السكري وأمراض القلب. وتذكر الإحصائيات أن مراجعي عيادات الطوارئ بسبب تناول جرعة زائدة من العقاقير الموصوفة طبيا باتوا أكثر عددا وكلفة ممن يراجعون هذه العياداة بسبب الإفراط في تناول عقاقير حصلوا عليها من الشارع.

وفي هذا السياق سوف نشهد ارتفاعات في مخصصات ذوي الإعاقات، وتعويضات العمال، ومكافآت المتقاعدين التي يتم دفعها للإنفاق على الرعاية النفسية. وسوف يحصل "المرضى" الجدد، بطبيعة الحال، على إجازات مرضية أكثر وبالتالي فإن الإنتاجية ستتراجع.

مراجعات غير كافية

ربما لا تقل خطورة الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس عن خطورة العقاقير الجديدة، ولكن الدليل لم يحظ بالتقييم التفاضلي (المخاطر مقابل المنافع) الدقيق الذي تجريه إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية قبل اعتماد أي دواء جديد، كما لم تقم أي جهة بالمفاضلة بين تكلفة الدليل الجديد ومنافعه.

لقد كان إعداد الدليل الخامس بحد ذاته مكلفا، حيث بلغت تكلفته لغاية الآن 25 مليون دولار أي خمسة أضعاف تكلفة الدليل الرابع الذي صدر عام 1994، ولم تبد الجمعية أي اهتمام بالتكاليف المحتملة الناشئة عن التعديلات التي يدخلها هذا الدليل على معايير التشخيص.

لقد باتت الجمعية تتعامل مع الدليل وفق حسابات الكتب الأكثر مبيعا كما لو كان إوزة تبيض ذهبا، حيث تهرع به إلى المطبعة قبل اكتماله لمجرد جني المكاسب المادية بغض النظر عن ثقة الناس فيه.

إننا بحاجة إلى حوار وطني واسع النطاق يتناول الصحة العقلية: تكاليفها وأفضل سبل الإنفاق عليها من الموارد المحدودة المخصصة لها. إن الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس ليس سوى خطوة كبيرة في الاتجاه الخاطئ – بعيدا عن الحس الطبي العام والمسؤولية المالية.

إن للأطباء والمرضى، على حد سواء، مصلحة كبيرة في إرغام الجمعية على التراجع، وكذلك الحكومة وسائر القطاع الطبي. الفئة الوحيدة التي ستستفيد من إصدار هذا الدليل هي الصناعات الدوائية، بينما سيدفع من تبقى منا الثمن.


* طبيبة نفسية وأستاذة في كلية الطب بجامعة ديوك، ترأست اللجنة التي أصدرت الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع عام 1994.

ليست هناك تعليقات: