الجمعة، يوليو 31، 2009

إيفلين

تأليف: جيمس جويس

جلست عند النافذة تراقب المساء وهو يغزو الجادة ببطء. كان رأسها متكئا على ستائر النافذة ورائحة القماش المغبر تتسلل إلى أنفها. كانت مرهقة.


قليل من الناس عبروا الجادة. مر مالك المنزل الأخير فيها وهو في طريقه إلى بيته. سمعت وقع أقدامه على الرصيف الخرساني ثم على الممشى الخشبي أمام المنازل الحمراء الجديدة. في السابق كانت هناك ساحة اعتادوا على أن يلعبوا فيها كل مساء مع الأطفال الآخرين، إلى أن جاء رجل من بلفاست واشترى الساحة وبنى عليها عددا من المنازل، ليست كمنازلهم الصغيرة بنية اللون بل منازل من الآجر البراق بسقوف لامعة. كان أطفال الجادة يلعبون معا في الساحة: آل ديفن، آل ووتر، آل دن، كيو الصغير المقعد، وهي وإخوتها وأخواتها. أما إرنست فلم يلعب معهم بتاتا لأنه أكبر منهم بكثير. اعتاد والدها على أن يطاردهم بعصا خشبية، وكان كيو المقعد يناديهم كلما لمح والدها قادما. لقد كانوا سعداء في تلك الأيام. لم تكن طباع والدها قد ساءت كثيرا في ذلك الوقت، ووالدتها كانت ما تزال حية. كان ذلك منذ زمن بعيد. أما الآن فهي وإخوتها أخواتها جميعا راشدون ووالدتها ميتة وتيزي دن أيضا ميتة و آل ووتر عادوا إلى إنجلترا. كل شيء يتغير، والآن هي في طريقها إلى أن ترحل مثلما فعل الآخرون وتترك بيتها.



البيت! أجالت النظر حولها في الغرفة مستعرضة مكوناتها المعتادة التي ظلت تمسح عنها الغبار سنوات طويلة وهي تتساءل من أين يأتي كل هذا الغبار. لعلها لن ترى هذه الحاجيات أبدا وهي التي لم تكن تتصور أن تفترق عنها. لكنها رغم مرور هذه السنوات كلها لم تستطع أن تعرف اسم القس المعلقة صوره المصفرة على الجدار فوق الهارمونيوم المعطل بجانب لوحة الوعود للقديسة ماري مارجريت. كان زميل دراسة مع والدها، وكلما كان والدها يري الصورة لأحد من الضيوف كان يمرر عبارته المعتادة:
- إنه الآن في ملبورن.
كانت قد وافقت على الرحيل، على ترك بيتها، فهل كان قرارها حكيما؟ لقد حاولت أن تدرس كل جانب من المسألة؛ في بيتها هناك دائما الغذاء والمأوى، وهناك الناس الذين عرفتهم طوال حياتها، موجودون حولها. وطبعا كان عليها أن تعمل بجد في البيت وفي العمل. ماذا سيقولون عنها في المتجر عندما يكتشفون أنها هربت مع رجل؟ سيقولون إنها حمقاء وسيملؤون بيتها بالأقاويل. سوف تكون الآنسة غافان سعيدة وهي التي كانت تحرص على إحراجها خاصة أمام الآخرين:
- آنسة هيل، ألا ترين أن السيدات ينتظرن؟
- من فضلك آنسة هيل، هلا أظهرت بعض الحيوية؟


لكن في بيتها الجديد، الذي يقع في منطقة مجهولة بعيدة، لن تكون الأمور على هذه الشاكلة. فحينذاك ستكون هي، إيفلين، متزوجة. والناس سوف يعاملونها باحترام حينئذ وليس كما كانوا يعاملون والدتها. وحتى الآن، وقد بلغت التاسعة عشرة، ما زالت تشعر أحيانا أنها مهددة من عنف والدها. عندما كانت تكبر مع إخوتها لم يكن يعتدي عليها كما كان يعتدي على هاري وإرنست، لكنه فيما بعد بدأ يهددها ويقول إنه لا يؤذيها من أجل أمها المتوفاة، والآن ليس لديها من يحميها، فقد مات إرنست. أما هاري الذي يعمل في مجال زخرفة الكنائس فقد كان يقضي معظم وقته بعيدا في الريف. كما أن مشاجرات ليلة السبت الدائمة حول الأمور المالية بدأت تزعجها. كانت تقدم راتبها كاملا، ومقداره سبعة شلنات، وكان هاري يرسل ما يستطيع إرساله لكن المشكلة كانت في الحصول على المال من والدها. كان يقول إنها تبذر أموالها وإنها بلا عقل وإنه لن يقدم نقوده التي جناها بجهده وتعبه لترمى في الشوارع وأكثر من ذلك بكثير، لقد كان سيئ الخلق في ليالي السبت.وفي النهاية كان يعطيها النقود ويسألها إن كانت تنوي شراء عشاء الأحد. ثم كان عليها أن تندفع مسرعة للتسوق وهي تمسك حقيبتها الجلدية السوداء بيدها بينما تستخدم مرفقها في شق طريقها بين الجموع إلى أن تعود للبيت في وقت متأخر محملة بالأغراض.


كانت تبذل جهدا كبيرا لإدارة المنزل ولتتأكد من أن الطفلين الذين تركا في رعايتها يذهبان إلى المدرسة بانتظام ويتناولان وجباتهما بانتظام. كان عملا شاقا، كانت حياة شاقة. لكنها الآن إذ توشك على مغادرتها لم تعد تجدها حياة سيئة بالإجمال.


كانت على وشك أن تكتشف حياة جديدة مع فرانك. كان فرانك عطوفا جدا، مفعما بالرجولة، طيب القلب. سوف ترحل معه بالسفينة الليلية لتصبح زوجته وتعيش معه في بيونس آيرس حيث كان لديه بيت بانتظارها.


إنها تتذكر بوضوح المرة الأولى التي رأته فيها. كان مستأجرا في منزل على الطريق الرئيسي. الأمر يبدو وكأنه حدث قبل أسابيع قليلة. كان يقف عند البوابة وقبعته مرفوعة على رأسه وشعره متدل للأمام على وجهه البرونزي، وهناك تعارفا. كان يلتقيها كل مساء خارج المتجر ويرافقها للبيت. أخذها مرة إلى مسرحية "الفتاة البوهيمية" وشعرت بالزهو لجلوسها في مكان غير معتاد من المسرح برفقته. كان مغرما بالموسيقى وكان يغني قليلا. الناس كانوا يعلمون أنهما كانا متحابين، وعندما كان يغني للفتاة التي تعشق البحّار كانت تشعر بالحيرة لفرط سعادتها. كان يناديها "بوبن" كنوع من التدليل. في البداية كان من المسلي أن يكون لها صديق ثم بدأت تعجب به. كانت لديه حكايات عن دول بعيدة. كان قد بدأ حياته كصبي على إحدى السفن التي تعمل على خط كندا براتب قدره جنيه واحد في الشهر. أخبرها عن السفن التي عمل بها وما كان يعمل فيها. كان قد أبحر عبر مضائق ماجلان، وأخبرها حكايات رهيبة عن سكان باتاغونيا. وقد استقر به المقام كما يقول في بيونس آيرس وجاء إلى دياره القديمة في إجازة فحسب. بالطبع اكتشف أبوها علاقتهما ومنعها من الحديث معه.


- "أنا أعرف هؤلاء البحارة." كان يقول.


في أحد الأيام تشاجر مع فرانك ومنذئذ أصبحت تضطر للقاء حبيبها في السر.


هبط الظلام على الجادة فشحب بياض الرسالتين على ثوبها. كانت إحداهما موجهة لهاري والأخرى لأبيها. إرنست كان المفضل لديها، وهي تحب هاري أيضا. لاحظت مؤخرا أن الهرم قد بدأ يصيب أباها. سوف يفتقدها. أحيانا يستطيع أن يكون طيبا جدا. قبل فترة غير طويلة عندما أقعدها المرض قرأ لها قصة عن الأشباح وأعد لها الخبز المحمص، ومرة، أثناء حياة أمها، خرجوا جميعا في نزهة إلى تلة هوث، وهي تذكر أن أباها ارتدى قبعة أمها لكي يضحك الأطفال.


كان موعدها يقترب لكنها ظلت جالسة عند النافذة وهي تميل رأسها على الستارة تستنشق رائحة قماشها المغبر. من آخر الجادة كان يصلها صوت عزف موسيقى. إنها تعرف هذا اللحن.. غريب أنه جاء في هذه الليلة بالذات لكي يذكرها بالوعد الذي قطعته لوالدتها. لقد وعدتها أن تحافظ على المنزل متماسكا ما دام ذلك بمقدورها. تذكرت الليلة الأخيرة من مرض والدتها. كانت في الغرفة المظلمة على الجانب الآخر من الردهة عندما سمعت ذلك اللحن الإيطالي الكئيب. دفعوا للعازف الإيطالي ستة بنسات وطلبوا منه أن يرحل. تذكرت والدها وهو يعود إلى غرفة المريضة ويقول:
- الطليان الملاعين! يأتون إلى هنا!


وبينما كانت تسترجع الصورة الكئيبة لحياة والدتها التي ألقت بظلالها على حياتها ووجودها، تلك الحياة الحافلة بالتضحيات، والتي تنتهي بالجنون التام، ارتجفت عندما سمعت من جديد صوت والدتها يردد بثبات جنوني:
- اتركوني الآن! اتركوني الآن!


وقفت فجأة مرتعبة. الهرب! إنها يجب أن تهرب! فرانك سينقذها. سوف يعطيها الحياة وربما الحب أيضا. لكنها أرادت أن تعيش فلماذا تشعر بالتعاسة؟ إن لها الحق في السعادة. وفرانك سوف يأخذها بين ذراعيه.. سوف يطوقها بذراعيه.. سوف ينقذها.
*****


وقفت بين الجموع المتمايلة في محطة نورث وول. كان يمسك بيدها، وأخذ يحدثها عن الرحلة مرارا وتكرارا. كانت المحطة مكتظة بجنود يحملون أمتعة بنية اللون. وعبر الأبواب الواسعة للمستودعات لمحت أجزاء من الجسم الضخم للسفينة التي تجثم بجوار رصيف الميناء وقد لمعت نوافذها. شعرت أن وجنتها باردة وشاحبة وأخذت، بدافع التوتر، تصلي لله أن يرشدها ويوجهها إلى ما ينبغي فعله. أطلقت السفينة صفارة طويلة حزينة في الضباب. إذا غادرت فإنها ستكون غدا في عرض البحر مع فرانك، مبحرة باتجاه بيونس آيرس. لقد حجز التذاكر لرحلتهما فهل ما زال بإمكانها أن تتراجع بعد كل ما فعله من أجلها؟ التوتر سبب لها دوار البحر فظلت تحرك شفتيها بصلوات صامتة حارة.


قرع جرس على قلبها. شعرت به يقبض على يدها


- تعالي!
كل أمواج العالم تلاطمت حول قلبها. كان يسحبها إلى الأسفل. كان سيغرقها.
تشبثت يداها بالسور الحديدي
- تعالي!
لا! لا! لا! مستحيل. تمسكت بالسور بجنون، ومن بين الأمواج أطلقت صرخة ألم.
- إيفلين! إيفي!
اندفع خلف الحاجز وناداها لتتبعه. تعالت الصيحات طالبة منه أن يتقدم للأمام لكنه أصر على مناداتها. أدارت له وجهها الشاحب وهي جامدة كحيوان عاجز.. لم تمنحه عيناها أي علامة على الحب أو الوداع أو الامتنان.







مؤلف القصة:
جيمس جويس روائي وشاعر إيرلندي. ولد في دبلن عام 1882 ودرس فيها ثم غادرها عام 1904 متنقلا بين المدن الأوروبية إلى أن توفي في زيورخ عام 1941 بعد حياة صعبة كابد فيها المرض ومآسي الحرب. صدرت مجموعته الشعرية الأولى عام 1907، وفي 1914 نشر المجموعة القصصية (أهالي دبلن) والتي أخذت منها هذه القصة.
في عام 1922 بلغ جويس الشهرة العالمية عندما نشر رواية يولسيسس أو عوليس التي ترتبط بملحمة الأوديسة لهوميروس،وتقوم على أسلوب تيار الوعي في وصف 24 ساعة من حياة شخصيتين تعيشان في مدينة دبلن. وفي عام 1939 أصدر آخر أعماله وأكثرها تعقيدا (يقظة فينيغان).

ليست هناك تعليقات: