السبت، يونيو 16، 2012

قراءة في كتاب "الغرابة: المفهوم وتجلياته في الأدب"


مؤلف الكتاب هو وزير الثقافة المصري السابق د. شاكر عبد الحميد، وقد عمل أستاذاً لعلم نفس الإبداع في أكاديمية الفنون بوزارة الثقافة في مصر. تمتاز كتابات عبدالحميد بوفرة المادة العلمية وبسلاسة أسلوب الكتابة حتى إن القارئ لا يمل منها ولا يكل، متخصصاً كان أو غير متخصص. وتنم كتابات عبدالحميد عن ثقافة واسعة واطلاع كبير، وهو يأبى إلا أن يحيط بالموضوع من جميع جوانبه قبل أن يقدمه للقارئ في صورته الأخيرة. وقد صدر الكتاب عن سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للفنون والآداب بدولة الكويت في عددها رقم 384 الصادر في يناير 2012.

غلاف الكتاب
تتميز كتابات عبدالحميد بالربط بين الأدب والفن وعلم النفس جميعاً كما في كتاب "الأدب والجنون"، و"الأسس النفسية للإبداع الأدبي للقصة القصيرة"، و"العملية الإبداعية في فن التصوير"، و"الفكاهة والضحك"، و"الخيال" وغيرها. وهو يتجنب في كتاباته الألفاظ الصعبة المستعصية، ويبتعد أيضاً عن السخيف المبتذل، فتخرج كتبه رصينة ذات وزن واحترام.

قسم الكاتب كتابه إلى تسعة فصول استبقها بتوطئة قدم فيها شرحاً مختصراً لفكرة الكتاب وتوزيع فصوله، وقدم فيها شكره لمن ساعدوه في إتمام الكتاب وإخراجه على صورته المنشورة. ثم بدأ الفصل الأول "حول معنى الغرابة" بسرد جزء من قصة السندباد البحري جعله مدخلاً للغرابة. ولعل الكاتب قد قصد أن يستهل فصول كتابه بنموذج من الأدب العربي يحاور فيه القارئ غير المتخصص ويستفز تفكيره بما يعلم، قبل الانتقال به إلى ما لا يعلم والخروج من دائرة الأدب العربي إلى الأدب الغربي. وقد حرص المؤلف في هذا الفصل على تقديم مجموعة من التعريفات لعدد من المفردات مثل الغربة والغرابة والوحشة والتغريب والاغتراب وغيرها، عند أدباء العرب ومفكري الغرب على حد سواء، وذلك بهدف التمييز بين هذه المفردات ومنع حصول الالتباس بينها.


وفي الفصل الثاني "الغرابة والأدب" يشرع المؤلف بالولوج بقارئه إلى عالم عدد من الأدباء الذين احتفوا بالغرابة واتخذوها منهجاً في كتاباتهم، وعلى رأسهم إدغار ألان بو وفرانز كافكا ومارسيل بروست، ثم ناقش كتابات عالم النفس سيغموند فرويد حول الغرابة الأدبية وتفسيره لها وقارنها بنظرية تزفيتان تودوروف حول ما يميز العجائبية بوصفها أحد الأنواع الأدبية. ولم ينس المؤلف أن يعرج على عدد من الدراسات العربية حول الأدب والغرابة كما عند عبدالفتاح كليطو ومحمد بنعزوز وحسن المودن.

جاء الفصل الثالث بعنوان "الغرابة وسرديات الخوف والظلام" وسار فيه الكاتب على الخط الفاصل بين نظريات علم النفس والنظريات الأدبية التي تناولت تفسير شعور الإنسان بالخوف وسبب خوفه من الظلام بالذات، ثم قدم عدداً من الأمثلة على أعمال أدبية تحتفي بهذا الخوف، وخاصة ما يسمى (السرد القوطي). أما الفصل الرابع "الغرابة وتفكك الذات" فقد عرض فيه المؤلف مجموعة من التعريفات النفسية لمصطلحي الذات وتفكك الذات، مع تركيز خاص على نظرية المحلل النفسي الفرنسي الشهير تلميذ فرويد الشهير: جاك لاكان.

د. شاكر عبدالحميد
ومثل الفصل الخامس "ازدواج الذات وانقسامها" استكمالاً لما بدأ في الفصل السابق، واستهله المؤلف بتحليل سريع للرواية الشهيرة (الدكتور جيكل والمستر هايد) التي تقدم نموذجاً ناصعاً على ازدواج الذات إلى قسمين متضادين، أو كما كتب كافكا مخاطباً خطيبته ذات يوم: (تعرفين أن اثنين يتصارعان في داخلي..). وفي الفصل السادس "الغرابة والقرين" تناول المؤلف بالدراسة مفردة يكثر استعمالها في الأدب والحياة اليومية على حد سواء، وقدم لها تفسيراً شاملاً استعان في توضيحه بعدد من النماذج الأدبية من أبرزها رواية (دوريان غراي) لإدغار ألان بو ورواية (القرين) لدستويفسكي ورواية (عام وفاة ريكاردوريس) لخوسيه ساراماغو وغيرها. ثم تابع الكاتب مسيرته في هذا الدرب غير المطروق عندما أعطى الفصل السابع من كتابه "روح هائمة في المكان" وتناول فيه مفاهيم الأشباح والأطياف والأرواح الهائمة، وعالج بكل احتراف قراءة جاك دريدا لهذا الموضوع وقارنها بقراءة فرويد.

وإمعاناً في إمتاع القارئ وتقديم الفائدة له، قدم المؤلف في الفصل الثامن "نص واحد غريب" ترجمته الشخصية لرواية قصيرة بعنوان (رجل الرمال) للألماني إرنست هوفمان (1776-1822)، وكانت هذه الرواية أساساً لدراسات معمقة حول الغرابة بدأها فرويد وتابعها بعده عدد كبير من أتباعه ومريديه. وفي الفصل التاسع "رؤى نقدية متعددة" قدم المؤلف شرحاً لخمس دراسات تناولت بالنقد مقالاً كتبه فرويد في نقد هذه الرواية، ولك أن تتصور مدى المتعة التي يستشعرها القارئ وهو يقرأ نقد النقاد لبعضهم ثم يخرج من هذا الكتاب وقد شكل لنفسه رأياً مستقلاً وربما أيضاً نقداً خاصاً للرواية التي قرأها، وربما كان هذا بعض ما أراده المؤلف من كتابه.

إنه كتاب مميز بكل المقاييس، يقدم للمكتبة العربية إضافة نوعية هي في أمس الحاجة إليها، ويثبت بما لا يدع للشك مجالاً أن علم النفس والأدب صنوان لا ينفصلان، وليس لأحدهما عن الآخر غنى.

ليست هناك تعليقات: