حضرت قبل أيام نقاشا فلسفيا معمقا حول كتاب جديد صدر بعنوان (العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة). وقد هالني ما قرأت في الكتاب وما سمعت من الحضور حول قضية بالغة الأهمية تتعلق بمسلمة من ثوابت ديننا الحنيف، كان عمر بن الخطاب قد تحدث عنها منذ قرون، وما زلنا نكررها إلى يومنا هذا دون أي تمحيص، ناهيك بالطبع عن التطبيق.
ليست المسلمة المقصودة عبارة (متى استعبدتم الناس...) التي شاع ذكرها بين العالم والجاهل، وصاحب النية الحسنة والغرض الخبيث على حد سواء. أقول ليست هذه العبارة هي المقصودة وإنما هي عبارة (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام)، ولا داعي لإكمالها لأنها أشهر من أن تذكر.
أما فلاسفتنا الأكارم فقد أعيتهم الحيلة وأضناهم الفكر قبل أن يتوصلوا جازمين إلى حقيقة يرونها ناصعة بين الحقائق والمسلمات، حيث يزعمون أن الغرب ما كان ليتقدم لولا أنه نحى "الدين" جانبا وطرح وراءه المعتقدات الغيبية البائسة واستبدل بها فرضيات العلم ونظرياته، وأفكار العلماء وتجاربهم. هكذا يقول علماؤنا نقلا عن معلميهم الغربيين، وهكذا يقول متعلمونا نقلا عن معلميهم المستغربين، وقريبا سنسمع العامة تتحدث بهذا الحديث في مجالسها العامة والخاصة!!
ولئن كان الغرب وحضارته المزعومة لا يعنياننا بشيء قط، فإن هؤلاء لم يكونوا ليتركوا أمة الإسلام في حالها، فقد أجمعوا، إلا قليلا، على أن حضارة الإسلام إنما بلغت ما بلغته من الرقي والقوة عندما تمسكت بأسباب العلم، ثم تردت أحوالها عندما تركت العلم إلى ما وراء العلم، ونبذت المنهج التجريبي إلى المنهج الغيبي، إلى أن صرنا إلى ما صرنا إليه.
وليس فلاسفتنا وحدهم من يزعمون هذا الزعم ويصرون عليه إصرارا، بل إن الكثير من المفكرين والأدباء يتبنون هذه الفرضية ويدافعون عنها أشد الدفاع، وليتهم دافعوا عن مقدساتنا أو حتى عن أنفسهم كما يدافعون عن هذه الفكرة الخبيثة.
أما هذا المسلم الراجي رحمة ربه ومغفرته، فيقول لهؤلاء ولمن احتذى حذوهم: فلتعلموا أيها الجهلة أن المسلم لا عزة له إلا بتمسكه بدينه ولو بعد حين. أقول لهم: إن الحضارة الإسلامية بلغت أوج أوجها زمن الخليفة هارون الرشيد، الذي كان يغزو عاما ويحج عاما، وكان يذهب بنفسه إلى مجالس العلماء ليوقرهم ويستمع إليهم، وبلغت دولة المسلمين في زمنه حدودها القصوى، ولم يبدأ التردي إلا من بعده. لم يبدأ التردي إلا من بعد المأمون، الذي فتح باب الترجمة على مصراعيه لتدخل ثقافتنا أفكار عجيبة من الفلسفة اليونانية الفاشلة، التي كانت تقدس من الآلهة من يتصفون بأخس الصفات البشرية، ولم نجد بين فلاسفتها واحدا يتحدث بما يقبله عقل منصف، فكلهم سواء.
المهم من كل ما سبق أن فلسفة اليونان وعلومهم وآدابهم دخلت على حضارتنا فأفسدتها، وما كانت لتضيرنا لو أن أجدادنا نبذوها وتركوا ترجمتها ودراستها. ولكن مشيئة رب العالمين فوق كل مشيئة، وإرادته فوق كل إرادة. والأيام دول بين الناس وكذا التاريخ لا يستقر أمره لأحد، ولا يكتبه إلا المنتصرون.
وللحديث بقية بإذن الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق