السبت، يوليو 10، 2010

رثاء لا بد منه


لم يدر بخلده قط أن ليلته التي قضاها على الطريق يسابق الزمن للوصول إلى الطائف كانت بغير صباح، وأن رحلته التي بدأها في الدنيا لم تنته به إلا في الآخرة.

أو لعله كان يعلم ما سيحصل له، لكنه لم يشأ أن يطلع أحدا على الخبر لكيلا يضيف إلى عنصر المفاجأة عنصر الترقب القاتل؟

هكذا كان طيلة حياته.. يراعي الآخرين على حساب نفسه، ولا يظهر لهم إلا رباطة الجأش، ويخفي في نفسه الكثير.

قبلها ببضعة أيام اتصل بي هاتفيا وأخبرني أنه راحل يوم الجمعة، وقال فيما قال جملة كانت معتادة بيننا :"طب خلينا نشوفك"..ولن أزعم أنني لاحظت في نبرة صوته شيئا غير معتاد أو يثير الريبة..فقد سافر قبلها مرات ومرات وسافرت من قبله، وكما كان يودعني في رحيلي كنت استقبله في إيابه، حتى صار الأمر أقرب إلى المعتاد منه إلى غير المألوف.

خواطر كثيرة كانت تتزاحم في ذهني صبيحة ذلك اليوم القائظ وأنا أسير في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة، أتأمل القبور المتراصة التي تملأ المشهد، ولا يفصل بينها سوى مسارات أعدت للمشاة الراغبين في استذكار موتاهم والدعاء لهم، أو أولئك الراغبين في الاتعاظ والاعتبار، وكفى بالموت واعظا.

وبينما كانت العبرات تتدفق كالسيل من عيني المحمرتين، أخذت أسير بين القبور على غير هدى، أسائل النفس في أيها يرقد قتيبة؟ بحثت عن قبره كثيرا لكن هيهات فالقبور في البقيع كلها سواء.

رجعت بي الذاكرة إلى أواخر العام 2001 عندما التقينا لأول مرة..عندها، ومن حوار بسيط جرى بيننا، أيقن كل منا أن الحوار سيمتد ويتشعب وستبنى عليه صداقة قوية استمرت ست سنوات، انتهت نسختها الدنيوية عندما فارق أحدنا الدنيا إلى الآخرة، وسنستأنفها بحول الله عندما يلحق الآخر بصاحبه، وعسى ذلك أن يكون قريبا.

كان يطيب لنا في كل خميس أن نتجول في شوارع السلط ثم نجلس على مقعد متهالك تحت مظلة لانتظار حافلة لا تأتي أبدا..كنا نجلس هناك ساعة من الزمن أو ساعتين أو ثلاثا، نتناقش في كل شيء، ونكاد نختلف على كل شيء! وكان من ضمن جدولنا الأسبوعي تحت المظلة مناقشة الأحداث التي جرت خلال الأسبوع في الكلية، وتحديد نقاط القوة والضعف في سلوك كل منا. ولا ضير، إن أسعفنا الوقت والطقس معا، من الحديث عن الخطط المستقبلية لكل منا على المدى القصير والمتوسط أحيانا.

وإن أنس لا أنسى يوما زارني فيه في تبوك، ذهبنا فيه سويا إلى مقهى البستان بالقرب من مسكني هناك. وكنت من قبل قد أعلمته بنيتي الاستقالة من العمل مدرسا هناك، وكان هو معارضا للقرار غير راض عنه. جلسنا في البستان طويلا نتحدث ونتحدث حتى كاد يحل الظلام ولم نتوصل، كعادتنا، إلى اتفاق! كان يومذاك في طريقه إلى الأردن في إجازة استثنائية أخذها كي يصلح ما أفسده حظه العاثر في إجازة سابقة، وكم كان هذا الحظ العاثر عليه منغصا.

وقبلها شاء رب البيت أن نجتمع سويا في بيته المحرم..جلسنا طويلا قبالة الكعبة نتحدث في كل شيء، ونسترجع أياما عشناها سويا، ونرسم صورا لأيام لم نعشها بعد، ولم نعشها أبدا.

كان يجمع بيننا نظرة متقاربة للآخرين. كنا نرى أننا أكثر منهم ذكاء وفطنة، وأننا أكثر قابلية للنجاح بحكم قدراتنا العقلية المرتفعة. كان واحدنا يتعجب كثيرا عندما يرى صاحبه يفشل في تنفيذ مهمة اتفق عليها الاثنان وصادقا على نجاحها وصادق معهما العقل وصادق معهم المنطق! كنا نختلف على كل شيء لكن أيا منا لم يشك لحظة في ذكاء صاحبه، حتى عندما دخل الواشون بيننا وابتعدنا عن بعضنا شهورا طويلة، شهورا مملة قاتلة!

كان كثير الانتقاد لتصرفاتي وكنت كثير الانتقاد لشخصيته. كان يرى فيّ متهورا أرعن لا يحسب حسابا لصروف الدهر وتقلباته، وكنت أراه مغرورا ثملا بحب ذاته يحسب أن كل صيحة لصالحه! وبالرغم من ذلك كان لا يثق إلا في نصحي، وكنت لا أستمع إلا لصوته في كثير من الأمور..نعم في كثير من الأمور لا في كل الأمور.

المشهد قبل الأخير في حياته كان مشهد الخطبة وعقد القران. وقد أقام أبوه لذلك حفلا بسيطا متواضعا على ساحة صغيرة بالقرب من منزلهم، ودعاني للحضور وأصر على حضوري لكنني لم أحضر! لا أستطيع أن أحدد سببا لامتناعي عن الحضور لكنني لم أحضر، وفاتني المشهد قبل الأخير.

أما المشهد الأخير فكان في الساحة ذاتها، في اليوم قبل الأخير من العام 2007، عندما لم يدعُ أحدٌ أحداً للحضور لكن الجميع حضروا عن بكرة أبيهم. جلست بين المعزين وأنا لا أصدق نفسي ولا هم يصدقون أنفسهم. كنا كمن يمثل في مسرحية مملة ينتظر الجميع انتهاءها: الممثلون قبل الجمهور. كان سؤال واحد يلح على أذهان الجميع: متى سيطل علينا بابتسامته المعهودة وينهي هذا السأم؟

كم كان مولعا بالسيارات وقيادتها! رافقته يوما في إحدى محاولاته الفاشلة للحصول على الرخصة، وعايشت يومذاك شعوره بالمرارة والأسى. ولم أستطع آنذاك أن أفهم سبب الحزن الذي لم يستطع أن يكظمه ولا إصراره العجيب على تكرار المحاولة مرات ومرات. وفي أوقات لاحقة أدركت أن متعته القصوى في الحياة كانت في التنقل من مكان إلى آخر بالسيارة! كثيرا ما كان يحدثني عن متعة القيادة وفنونها ومهاراتها، وحذرني ذات يوم من أنني سأندم كثيرا إن لم أنل رخصة القيادة لأنني سأفوت على نفسي متعة ليس لها من مثيل.

تذكرت هذه الكلمات عندما حصلت على رخصة القيادة بعد شهرين من رحيله..وما زلت أشعر أن قيادتي للسيارة ليست كما ينبغي لأنه لم يقدر له أن يراني وأنا أقود، ولم يقدر لي أن أتجول معه بسيارتي كما تجول معي بسيارته.

لقاؤنا الأخير كان في بيتي عندما زارني في عيد الأضحى. تحدثنا كالعادة في كل شيء وكان تركيزنا في تلك المرة على المستقبل. أصغيت إليه باهتمام وهو يسرد لي الخطة المحكمة التي أعدها للسنة المقبلة 2008، وأصغى هو إلي وأنا أحدثه عن طموحاتي الحاضرة والمستقبلية بإسهاب..وتمنى كل منا للآخر خيرا. في تلك الليلة لم أشيعه كعادتي إلى سيارته، فقد كان البرد قارسا. اكتفيت بالنظر إليه من بعيد وهو يركب سيارته ولم أنتظر لأتابعه وهو يختفي في الظلام؛ فقد كنت واثقا من أنني سأراه قريبا.

واليوم، بعد أكثر من عامين ونصف العام من رحيله، ما زلت أفتقده كما لم أفتقد أحدا من قبل. ما زال مكانه خاليا ينتظر عودته، وما زلت أمتنع عن الاقتناع بأنه لن يعود.

ما أصعب أن يكسب المرء صديقا، ناهيك عن أن يفقده!

رحم الله قتيبة بن عبدالمنان.

ليست هناك تعليقات: