تزامن احتفال الجزائر في هذا العام بالذكرى الخمسين لاستقلالها عن فرنسا مع نفض الغبار عن هذا الفيلم وإعادته إلى شاشات العرض من جديد بعد أن طواه النسيان أو كاد لمدة غير قصيرة. يحتل هذا الفيلم المرتبة 120 من بين أفضل 500 فيلم في تاريخ السينما وفقا لتصنيف مجلة إمباير البريطانية، كما أنه الفيلم الوحيد في التاريخ الذي ترشح لنيل جائزة الأوسكار في سنتين مختلفتين، ولم ينل الجائزة في المرتين. ويرى الكثير من النقاد أن "معركة الجزائر" هو واسطة العقد في أعمال المخرج الإيطالي غيلو بونتيكورفو، وأن أهمية الفيلم تتعدى قيمته التاريخية والسياسية إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
ولي في هذا المقام ملحوظة استحوذت على تفكيري بينما كنت أتابع النصف الثاني من أحداث الفيلم، والذي يروي بطبيعة الحال قصة تحرر الجزائر من مستعمريها وتضحية الشعب الجزائري بكل فئاته وأطيافه في سبيل نيل الحرية والانعتاق من أسر الاحتلال والمحتلين. ولا يخلو الفيلم من مشاهد مؤلمة ما تزال تجد لها أثرا في النفس على الرغم من كل ما نرى ونسمع في هذه الأيام العصيبة، ولا يزال الفيلم قادرا للآن على تذكير الجزائريين بأن بلادهم كانت محتلة قبل خمسين عاما فقط، ولعل عرضه في هذه الأيام يجعلهم – أعني الجزائريين – يقارنون حاضرهم بماضيهم ويجروا تقييما لتجربة العقود الخمسة المنصرمة التي كانت أكثر سنواتها عجافا، للأسف.
والمؤسف في هذا الفيلم، فيما أرى، أنه يكشف النقاب عن توجه في الإعلام (ليس فقط في الأفلام) مناهض للعنف إن كان صادرا عن العرب، مؤيدا له إن كان صادرا عن غيرهم. ففيلم "معركة الجزائر" فيه بطلان جزائريان اثنان: علي لابوانت، والهادي جعفر. الأول طائش أرعن لا يرى في القتل مشكلة طالما كان سبيل الحرية، والآخر هادئ عقلاني يزن الأمور بميزان من ذهب، ويرى القتل مجرد وسيلة لا غاية. وللقارئ أن يستنتج، بعد هذا الوصف الموجز، كيف كانت نهاية كل منهما. لقد مات علي لابوانت في الفيلم مقتولا لأنه أصر على العنف ورفض أن يثق بالفرنسيين، أما الهادي جعفر فقد نجا بنفسه وأهله عندما اختار تسليم نفسه للممحتلين وظل يرفض استخدام العنف ضدهم لكيلا يخسر الجزائريون تعاطف هيئة الأمم على حد تعبيره.
وفي الجهة المقابلة هناك ضابط فرنسي قوي الشكيمة يستدعى من بلاده لكي يساهم في قمع ثورة الجزائريين. يتمتع هذا الرجل بذكاء كبير لكنه لا يملك مثقال ذرة من الرحمة في قلبه. وهو، مثل علي، لا يرى في القتل أي مشكلة على الإطلاق ما دام يؤدي الغرض ويوصل إلى الغاية المرجوة. والغريب أن هذا الضابط يتباهى بماضيه التليد في مقاومة النازية والقتال في معارك الهند الصينية لكنه يستكثر على شعب تحت الاحتلال أن ينظم إضرابا مفتوحا لمدة أسبوع. والسؤال هنا: لماذا عنف الفرنسي ضد النازي بطولة بينما عنف الجزائري ضد الفرنسي إرهاب وتخريب؟ السؤال بالطبع للقائمين على الفيلم إن كانوا لا يزالون أحياء ويقرأون بالعربية ويطالعون الآن هذه المدونة.
أما المشاهد العربي فلا عزاء له؛ فكل ما عليه هو أن يؤمن في قرارة نفسه بأن العنف لا يؤدي إلا إلى المزيد من العنف، وأن خير وسيلة لمقاومة الاحتلال هي المقاومة السلمية بالمظاهرات والاعتصامات وما إلى ذلك. وهذا الأسلوب في "التعليم" أو "التلقين" شبيه ما يسميه أصحاب علم النفس التربوي: التعزيز التفاضلي للسلوك. فأنت إذا أردت المفاضلة بين سلوكين فكل ما عليك هو أن تدعم المرغوب بالتعزيز وتضعف المرفوض بالتجاهل أو الإنكار أو الاستنكار، والزمن كفيل بأن يصبح السلوك الذي أردته هو السائد بينما يتوارى الآخر كأنما لم يكن من قبل قط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق