كيت ميرفي
يرى كثير من النقاد أن روايات هاروكي موراكامي متماثلة إلى حد التطابق. والواقع أن كتاباته تحوي الكثير من الموضوعات والشخصيات والمواقف المتشابهة. ولا تخرج رواية "جنوب الحدود، غرب الشمس" عن هذا الإطار. غير أن هذا لا ينفي وجود صفات فريدة يتميز بها كل عمل من أعمال هذا الكاتب عن غيره: هناك ظلال خفيفة، وفلسفات كبيرة وصغيرة، وملاحظات ومشاعر عشوائية تخرج عن نطاق التشابه في الموضوعات أو الشخصيات. ولعل هذه السمات المتفردة هي التي تميز كل عمل من أعمال موراكامي عما سواه.
"جنوب الحدود، غرب الشمس" هي رواية صغيرة مما يسهل قراءته في جلسة واحدة إن كنت ممن يتعجلون القراءة. لكنني أدعوك لأن تتمهل، لأن هذه الرواية مملوءة حكمة وحزنا. خذ وقتك بالكامل، ففي الرواية درس لك.
تضم الرواية كل ما هو موراكامي (وقد استخدمت الاسم هنا للوصف لا للإشارة إلى العلم). البطل "هاجيمي" هو رجل يعيد النظر في تفاصيل وجوده إبان تعرضه لأزمة منتصف العمر. هناك موسيقى، الجاز على وجه الخصوص، وامرأة ذات جمال أثيري تطارد هاجيمي بعد أن خرجت من ماضيه لتؤثر على حاضره. هناك جنس، وهناك حب عميق، وغموض، ورجل عليه أن يختار بين خيارات الحب واحتمالاته.
ثمة تشابه كبير بين "جنوب الحدود، غرب الشمس" وبين رواية "الغابة النرويجية". ففي هذه الأخيرة (1987) كان تورو واتانابي شابا يحاول أن يختار بين امرأتين وفي الوقت نفسه يختار بين العودة إلى الماضي أو الانطلاق نحو المستقبل. أما هاجيمي فهو يدخل منتصف العمر وهو راض عموما عن كل ما لديه باستثناء الحضور المباغت لصديقة طفولته ومحبوبته الأولى شيماموتو، والتي عادت للظهور فجأة في حياته ليتجدد شعوره بالحب العارم تجاهها لدرجة جعلته يعيد النظر في حياته بأسرها.
هاروكي موراكامي |
يحيط الغموض بشيماموتو من كل جانب. يدرك القارئ أن ثمة مأساة غامضة قد حلت بها لكن لا توجد أية تفاصيل غير أنها فقدت طفلا لها في ظروف مجهولة، ومن المحتمل أن يكون اختفاؤها المفاجئ في نهاية الرواية بسبب الانتحار. كما أن مغلف المال الذي فقده هاجيمي يطرح تساؤلات إضافية حول ظهورها الغامض واختفائها الأكثر غموضا. وهنا يوجد تشابه مع رواية "محبوبة سبوتنيك" (1999) والتي كتبها موراكامي بعد سنوات قليلة من "جنوب الحدود، غرب الشمس". لكن على النقيض من اختفاء سوماير في "محبوبة سبوتنيك"، فإن اختفاء شيماموتو يفتقر إلى الشعور و/أو إمكانية وجود أي تفسير واقعي أو لاواقعي. وبالتالي فإن رواية "جنوب الحدود، غرب الشمس" تأخذ بعدا أكثر مأساوية من غيرها.
وبخلاف هذه الموضوعات والحكايات التقليدية لدى موراكامي هناك فكرة محورية تميز هذه الرواية عن غيرها من أعمال هذا الكاتب، ويتجلى هذا المفهوم في عنوان الرواية حيث أن "جنوب الحدود" هو عنوان أغنية كان هاجيمي وشيماموتو يستمعان إليهما في صباهما على جهاز التسجيل الخاص بوالدها دون أن يفهما كلماتها الإنجليزية. إنها فكرة مملوءة بالأمل والرجاء لكنها تتحطم بالكامل عندما يكتشف هاجيمي أن الكلمات لا تتحدث إلا عن المكسيك. أما الشطر الثاني من العنوان "غرب الشمس" فهو يشير إلى الحالة المسماة "الهستيريا السيبيرية" أو "المتلازمة القطبية" التي تصيب بعض سكان سيبيريا والمناطق القطبية ممن يتابعون شروق الشمس وغروبها على مساحاتهم الشاسعة دون أي تغيير في نمط الحياة اليومي أو في موضع الشمس في الأفق. وقد قدمت شيماموتو وصفا بليغا للمزارعين في سيبيريا وهم يلقون بأدواتهم فجأة ويشرعون في السير باتجاه الشمس لكي يعرفوا ما الذي يوجد وراءها. وبالطبع ليس ثمة شيء غرب الشمس، ليس شيئا مما يمكن أن نجده على الأرض بأي حال من الأحوال.
سألتها: لكن ماذا يوجد هناك، إلى الغرب من الشمس؟هزت رأسها ثانية وقالت: "لا أعرف. ربما لا شيء، وربما شيء ما. ولكنه في جميع الأحوال مختلف عما يوجد جنوب الحدود".
يرمز "غرب الشمس" إلى البحث عن شيء ما في مكان مختلف لا يمكن أن يكون موجودا، بينما يشير "جنوب الحدود" إلى اكتشاف أن ما وراء الحدود ربما لا يكون أي شيء على الإطلاق، هذا إذا استطاع المرء الوصول إليه أصلا. وهذا ملخص ممتاز للوضع الذي وجد هاجيمي نفسه فيه. إنه يحب زوجته وابنتيه، والنجاح الذي حققه في عمله يفوق بأضعاف كثيرة أقصى ما كان يطمح إليه، ولكنه يرغب بالمزيد على الرغم من كل ذلك. إنه يرغب في شيماموتو، لكنه في الحقيقة لا يملك أدنى فكرة عما يعنيه ذلك. تقول شيماموتو "الحقيقة المرة هي أن بعض الأشياء لا يمكن أن تعود إلى الوراء. فبمجرد انطلاقها للأمام، ومهما حاولنا، فإنها لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه في السابق. إذا وقع خلل بسيط في جزئية بسيطة للغاية فإنه سوف يبقى على حاله إلى الأبد". وكما أن غرب الشمس لا يمكن الوصول إليه أبدا، فإن هاجيمي لن يستطيع أبدا العودة إلى الماضي الذي عاشه مع شيماموتو.
هذه هي الحقيقة الأساسية في "جنوب الحدود، غرب الشمس". الماضي مختلف دائما عن الحاضر، وعندما نبحث في المستقبل عما كنا عليه في الماضي وما كان لدينا آنذاك هو مما لا طائل منه، لأن الماضي لا يعود أبدا.
هناك تعليق واحد:
سرد جميل ورائع ، خصوصا ربطك للاحداث التي وقعت في الغابة النرويجية ..
و جنوب الحدود غرب الشمس كانت رواية بلفعل تستحق القراءاة على مهل
كنت محبط بعد ما انهيت قراءة الكتاب خصوصا نهاية الكتاب ما توقعتها ابدا
فكري ازداد تشتت ، و مرحلة منتصف العمر حسستني بشيء من الضياع ، و كأن الحياة
تسير بلا أي معنى
على كل حال لك جزيل الشكر ....
إرسال تعليق