رجل وامرأة في فندق عند ساحل نورماندي. المرأة حضرت للفندق قبل الرجل بيوم واحد وخرجت للتنزه. الرجل، وقد وصل للتو، يحاول العثور عليها. ويعثر عليها بالفعل – عند الشاطئ، تسير على غير هدى بين السياح والأطفال الذين يركبون يخوتا رملية. يناديها باسمها: "شانتال! شانتال!" ولا تلتفت إليه، ويتسلل إليه شعور بالقلق من أن أحد اليخوت الرملية ربما يكون قد صدمها. "شانتال!" يقترب منها راكضا، تستدير المرأة في اتجاهه و – إنها ليست هي. إنها امرأة أخرى. امرأة أكبر سنا، أقل جمالا، وبالتأكيد ليست رفيقته. كيف أمكنه أن يرتكب خطأ بهذه الجسامة؟
"الهوية" هي الرواية التاسعة لميلان كونديرا والثالثة المكتوبة باللغة الفرنسية، وهي تتناول بالطبع موضوع الهوية الإنسانية، وبخاصة صعوبة تكوينها وسهولة هدمها بالكامل. إنها قصة شانتال وجان مارك، في البداية من منظورها ثم من منظوره حيث يبحث كونديرا في الروابط الدقيقة التي تتألف منها العلاقات القوية أحيانا. وهذه أيضا، بغض النظر عن النهاية الغريبة التي تنتهي بخدعة ظالمة، هي منطقة كونديرا المفضلة، تلك المنطقة المضيئة الفلسفية الجنسية التي يملك فيها الرجال والنساء حياة داخلية مذهلة وقدرة متميزة على السخرية بلباقة من العالم بأسره، مهما كان قاتما.
هذه الرواية – والتي يمكن القول أيضا بأنها رواية قصيرة حيث لا يتجاوز عدد صفحاتها 153 – تبدأ بانتظار شانتال لجان مارك في الفندق على ساحل نورماندي، حيث سيقضيان إجازتهما معا. تشعر شانتال بالسأم من انتظار رفيقها فتخرج لتتمشى بمحاذاة المتاجر والشاطئ. تراقب في سيرها فقدان الرجال لرجولتهم وهم يتحولون من "الأب" إلى "البابا" ويتحملون المزيد من المسؤوليات الأسرية. تبدو هذه الأفكار مضحكة لها في البداية، لكن فكرة أخرى تباغتها: "أنا أعيش في عالم لن يعود فيه الرجال يديرون وجوههم إليّ أبدا". هذا ليس صحيحا بالطبع، لكنها لا تستطيع أن تتخلص من هذا الشعور. وفي وقت لاحق، عندما يصل جان مارك إلى الفندق، يقال له إنها قد خرجت. يقرر الخروج للبحث عنها، ويمشي في المسار نفسه تقريبا، ويلتقط ملاحظات شبيهة بالتي التقطتها شانتال.
عمد كونديرا إلى مبادلة أدوار الراوي بين شانتال وجان مارك في المفاصل الهامة من الرواية. وبشكل عام، هناك أوقات تكون فيها إحدى الشخصيتين قد توصلت إلى قرار ذهني أو عاطفي أو فهم معين يتعلق بنفسها أو بالشخصية الأخرى، وعندئذ فإن كونديرا يرجع إلى الوراء بعض الشيء ليبين لنا تفسير الشخصية الأخرى للحدث نفسه. وبالتالي فإننا نستطيع أن نراقب حالات من الصمت الذي يساء تفسيره، والكلمات التي تقال عند تخوم المناطق الفاصلة، والمشاعر التي تعني الكثير لإحدى الشخصيتين دون الأخرى. يعتقد كل من شانتال وجان مارك أنه يفهم رفيقه جيدا، لكننا ندرك أثناء تنقلنا بينهما أن الوضع ليس بالضرورة كذلك.
بلغت ثقة شانتال في جان مارك حدا خشيت معه من أن الرجال لن ينظروا إليها أبدا. إلا أنها لا تقصد ذلك، على الإطلاق، ولم تكن لتخطر ببالها فكرة كهذه لولا تشتت أفكارها. أما جان مارك فقد أخذ المسألة على محمل الجد وتملكه الخوف من أنها ربما تفكر في إضعاف علاقتهما. وبعد تلك الحادثة بفترة قصيرة بدأت رسائل مجهولة المصدر في الوصول إلى صندوق بريدهما باسم شانتال – رسائل من معجب مجهول. ولسبب ما فإنها تخفي الرسالة الأولى عن جان مارك، وهذا يعني أن الرسائل التالية لا بد من إخفائها أيضا. ويأخذنا كونديرا جيئة وذهابا في رحلة يدرس خلالها التغير الكبير في المواقف الذي يؤدي إلى نشوء فجوات هائلة في الفهم بين الطرفين.
إن صوت كونديرا الراوي أقل حضورا (أو أقل تدخلا) في "الهوية" منه في سائر رواياته. وبصورة عامة، يجري تقديم الشخصيات على أنها من خيالات الكاتب، وليست أوضاع هذه الشخصيات وأفكارها سوى أرضية يستخدمها كونديرا في التعليق على بعض المسائل الفلسفية والعلاقات والجنس. لا يبذل كونديرا أي جهد لإقناع القارئ بأن شخصيات الرواية "حقيقية". ليس في رواية "الهوية" على الأقل. تأتي الأفكار من الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية، والسرد بأكمله تقريبا موزع بين منظور شانتال ومنظور جان مارك. وهذا الأسلوب موفق هنا لأن القسم الأكبر من الرواية يدور حول الأخطاء التي يرتكبها الأفراد في علاقاتهم عندما يسيئون تفسير تصرفات الشريك.
ولكيلا تبدو هذه الرواية شبيهة بكتاب للنصائح حول العلاقات، فلا بد من الحديث عن الموضوع الأساسي لها، ألا وهو الهوية. يبرز كونديرا هذا المفهوم بوضوح من خلال اختياره عنوانا للنص وجعله غالبية أفكار وتجارب الشخصيتين مطايا لاستكشاف الوجوه المختلفة لشعور كل من الشخصيتين بالذات. يراجع كل من شانتال وجان مارك باستمرار فهمهما لنفسيهما وللطرف الآخر، وحتى عندما لا يفعلان ذلك فإنهما يحدثان القارئ عن جوانب من شخصيتيهما. وهذا يمنحنا الفرصة لمتابعة التغيرات التي تطرأ على هويتيهما على امتداد أحداث الرواية، ولعل من الأدق أن نقول إننا نتلقى وعيا أكبر بماهية شخصيتيهما مع كل صفحة نقرؤها في الرواية. ليست الحياة قصة نسردها في جمل طويلة لكل شخص نلتقي به، وهذه الرواية ليست مكتوبة على هذا النمط. بل إن الأحداث هي التي تولد أفكارا جديدة، وهذه تستدعي بدورها ذكريات تستخدمها الشخصية في تلوين المشهد، وهذا كله يغير من مدركات الشخصية لتأتي بأفكار جديدة، وهكذا دواليك. شانتال وجان مارك شخصيتان عضويتان، شخصان يتغيران ويتبدلان مع تغير ظروف الحياة.
ما يعيب نهاية الرواية هو الانزلاق المفاجئ إلى أرض الأحلام أو الكوابيس أو شيء ما لا ندرك كنهه. تصبح الأحداث غامضة على نحو مباغت، ولكن هذا يعمل أيضا لصالح الموضوع الرئيسي لرواية كونديرا: فهو يجرد شانتال من هويتها ليفي بالوعد الذي قطعته ممارساته الذهنية على مدى أكثر من مائة وخمسين صفحة في الرواية. وإذا كان لنا أن نبحث في الهوية بصورة سليمة، فالأجدر بنا أن ندرس غيابها أيضا. من الصعب متابعة المشاهد الأخيرة من الرواية لسببين: أن سياقها شبيه بسياق الحلم، وأن كاتبها قصد أن تكون بهذه الصورة الغامضة المحيرة. ولكي يزيد كونديرا من حيرة القارئ فإنه يجعل من النهاية حلما بالفعل. تستيقظ الشخصيتان، ويتضح أن شانتال كانت ترى كابوسا. لكن أي أجزاء الرواية ينطبق عليه ذلك؟ أين بدأ هذا الكابوس؟ إن شانتال لا تجيب عن السؤال، وكونديرا لا يريد الكشف عن السر. وأهمية هذا السؤال تكمن في أننا، نحن القراء، الذين سنحدد النقطة الفاصلة في الرواية. نحن الذين سنحدد متى أصبحت هوية كل من شانتال وجان مارك خيالية حتى بالنسبة إلى كل منهما – وهي بالتأكيد خيالية لأنهما شخصيتان خياليتان في رواية -. يمكن أن يكون هذا النوع من الخداع مثيرا، ولا شك في أن النهاية بحاجة لقراءة متأنية، والأحوط إعادة قراءة الرواية بأكملها. إلا أن ما يريد كونديرا أن يقوله، على الرغم من غموضه، واضح جدا. إن هويتنا هي ما ندركه عن أنفسنا، وهي أيضا ما ندركه عن الآخرين وما يدركه الآخرون عنا. كل شيء بالغ الدقة، وسيطرتنا على أنفسنا ربما لا تقل قوة عن سيطرتنا على الآخرين. إن "الهوية" قصيرة لكن موضوعها قوي، والرواية نفسها مكتوبة بطريقة مرحة أشبه ما تكون بمحادثة خفيفة. أنصح الجميع بقراءتها، وبصورة خاصة أولئك الذين سبق لهم قراءة بعض الأعمال السابقة لكونديرا.
*كاتب وناقد أسترالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق