عاد الساسة في واشنطن من جديد إلى السعي لإصلاح نظام الهجرة الأمريكي، حيث اقترح الرئيس باراك أوباما وعضو مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري ماركو روبيو (فلوريدا) توفير "سبل للحصول على الجنسية" لحوالي 11 مليون شخص من المهاجرين غير الشرعيين. وثمة خيارات أخرى مطروحة في هذا الصدد، من بينها استكمال بناء السياج الحدودي، وإقامة نظام أكثر كفاءة للتعريف الإلكتروني لأصحاب العمل، وإقرار قانون "دريم" (تنمية وإغاثة وتعليم المهاجرين القاصرين D.R.E.A.M.) في الكونغرس.
لكن المشكلة تكمن في أن المقترحات المذكورة جميعها تفتقر إلى الفهم الصحيح لمسألة الهجرة في أميركا؛ إذ من المرجح أن الهجرة في المستقبل لن تخضع لخيارات السياسة الأمريكية المحلية بقدر ما ستكون خاضعة للأوضاع الديمغرافية في العالم أجمع.
خلال السنوات الثلاثين الماضية تدفقت إلى الولايات المتحدة أعداد ضخمة من المهاجرين الذين أتوا من الحدود الجنوبية، ويعيش اليوم في الولايات المتحدة 38 مليون شخص ممن ولدوا خارج البلاد بمتوسط يزيد على مليون مهاجر في السنة الواحدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهو معدل غير مسبوق في التاريخ الأمريكي بأسره. وبغض النظر عن القرارات التي سيتخذها الساسة الأمريكيون فإن من المتوقع أن يتوقف هذا التدفق قريبا.
وكما في سائر أنحاء العالم، تتأثر الهجرة بمعدل الخصوبة (متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة الواحدة في حياتها). فإذا كان معدل الخصوبة في دولة معينة يزيد على 2.1 – وهو ما يطلق عليه علماء الديمغرفيا اسم "مستوى الإحلال" – فإن عدد سكان هذه الدولة سوف ينمو، وإذا كانت الخصوبة أقل من 2.1 فسوف يتراجع عدد السكان.
وعند تطبيق هذا المبدأ على الهجرة تصبح الديمغرافيا صاحبة الكلمة العليا: فالدول التي تقل معدلات الخصوبة فيها عن مستوى الإحلال تنزع إلى جذب المهاجرين وليس طردهم. وبالتالي فإن انخفاض معدل الخصوبة لدولة معينة يعني أن هذه الدولة ستتوقف عن تصدير المهاجرين.
لنأخذ على سبيل المثال بورتو ريكو. بدأ البورتوريكيون بالانتقال ببطء إلى الولايات المتحدة خلال العشرينيات من القرن الماضي، وبحلول عام 1930 بلغ عددهم في أميركا 50.000 شخص يعيش جلهم في مدينة نيويورك. بعد ذلك شهدت معدلات الهجرة ارتفاعا كبيرا ليصبح عدد البورتوريكيين الذين يصلون إلى الولايات المتحدة في العام الواحد 30.000 شخص. وبلغت هذه الموجة ذروتها في عام 1955 عندما وصل إلى الولايات المتحدة 80.000 مهاجر من بورتوريكو.
اختلف الوضع كثيرا خلال الفترة بين عامي 1955 و2010، حيث لم يدخل الولايات المتحدة من البورتوريكيين سوى 4.283 شخصا خلال عام 2010 وذلك على الرغم من أن عدد سكان بورتوريكو كان قد تضاعف تقريبا خلال فترة نصف القرن المذكورة.
لماذا حدث ذلك؟ علما بأن الهجرة من بورتوريكو إلى الولايات المتحدة باتت أسهل من ذي قبل، كما أن التحسن الطفيف الذي طرأ على الأوضاع الاقتصادية في بورتوريكو لا يوازي شيئا من التقدم الهائل في الولايات المتحدة.
الجواب هو أن معدل الخصوبة في بورتوريكو تراجع كثيرا من 4.97 في عام 1955 (أي أكبر بكثير من مستوى الإحلال) إلى 1.64 فقط في عام 2012، وهذا يقل كثيرا عن مستوى الإحلال وعن معدل الخصوبة في الولايات المتحدة نفسها.
وهذا لا ينطبق على بورتوريكو فحسب وإنما على سائر دول أميركا اللاتينية أيضا، حيث انخفضت معدلات الخصوبة بصورة ملحوظة خلال العقدين الماضيين.
لقد هبط معدل الخصوبة في الكثير من دول أميركا اللاتينية إلى ما دون مستوى الإحلال، وليس من قبيل المصادفة أن هذه الدول – مثل الأوروغواي وتشيلي والبرازيل وكوستا ريكا – لم تعد تصدر المهاجرين إلى الولايات المتحدة مطلقا، بينما تأتي الأغلبية الساحقة من المهاجرين من دول تزيد معدلات الخصوبة فيها على مستوى الإحلال مثل هندوراس والسلفادور وكولومبيا وغواتيمالا والمكسيك. وحتى هذه الدول الأخيرة لم تسلم من ظاهرة التراجع الكبير في معدلات الخصوبة أيضا.
المكسيك مثلا – وهي التي جاء منها قرابة ثلثي المهاجرين القانونيين وغير القانونين خلال العقود الثلاثة الأخيرة – شهدت انخفاضا مدويا في معدل الخصوبة من 6.72 عام 1970 إلى حوالي 2.1 فقط في الوقت الحالي (تراجع بنسبة 70% خلال جيلين فقط)، ولا يزال المعدل يتراجع.
والنتيجة لما سبق هي أن الولايات المتحدة لم تستقبل أي مهاجر من المكسيك خلال الفترة من عام 2005 إلى 2010.
ولا نستطيع بالتأكيد أن نستبعد تأثير بعض العوامل الأخرى مثل الكساد الكبير، لا سيما تراجع قطاع الإنشاءات والإسكان، لكن هذا لا ينفي أننا ربما نشهد في الوقت الحالي بداية تغيرات جذرية فيما يتعلق بالهجرة بسبب تحول الوضع الديمغرافي في المكسيك إلى ما يشبه حالة بورتوريكو.
وعلينا أن ندرك أن تجربة المكسيك ليست فريدة من نوعها وإنما هي جزء من ظاهرة عالمية، حيث أن 97% من البشر اليوم يعيشون في دول تشهد انخفاضا في معدلات الخصوبة. وإذا بدأ معدل الخصوبة في الانخفاض فإنه لن يتوقف حتى يبلغ ما دون مستوى الإحلال، ولهذا السبب فإن معظم النماذج الديمغرافية تتوقع أن يصل عدد سكان العالم إلى ذروته قبيل نهاية القرن الحالي ثم يبدأ في التراجع، وسيكون هذا التراجع الأول من نوعه منذ أن اجتاح الطاعون الأسود أوروبا في القرون الوسطى.
إن الجدل حول الهجرة في الولايات المتحدة سياسي بالدرجة الأولى، والحقيقة أن الليبراليين والمحافظين على حد سواء لديهم مخاوف منطقية من تأثيرات الهجرة. إلا أن هذا الجدل السياسي يتسم بقصر النظر، ومهما اعتمدنا من خيارات سياسية فإنها لن تفيدنا إلا في المدى القريب فحسب، وفي النهاية ستكون الغلبة للديمغرافيا.
* مؤلف كتاب "ماذا نتوقع عندما لا يتوقع أحد: الكارثة الديمغرافية الوشيكة في أميركا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق