الخميس، أغسطس 29، 2013

أزمة الهند الاقتصادية


خلال عامي 2005 و2006 كان كبار صانعي القرار في العالم، ومنهم وزراء المالية الذين يشكلون بمجموعهم إدارة صندوق النقد الدولي، مجمعين على أن الأزمات المالية والاقتصادية باتت من الماضي. كانت الولايات المتحدة وأوروبا قد تحررتا من مخاوف عدم الاستقرار العميق، وتعلمت أسواق الدخل المتوسط الناشئة دروسا قاسية من تجاربها خلال العقود السابقة وبالتالي فإنها اعتمدت سياسات أكثر حذرا للمستقبل. أما الأزمات الخطيرة، إن حدثت من الأصل، فسوف تقتصر على الدول ذات الدخل المتدني والمنهكة بفعل الحروب.


كانت هذه النظرة خاطئة بالكامل؛ فنحن الآن عالقون في دائرة كاملة من الأزمات ابتداء من الولايات المتحدة (منذ 2007) وأوروبا (منذ 2008 في الواقع). وقد جاء الآن دور الأسواق الناشئة لمواجهة المشكلات الحقيقية، ومنها الهند التي حققت نجاحا كبيرا ومتواصلا لمدة 20 عاما.

ثمة أنواع متعددة من أزمات الأسواق الناشئة، لكن أكثرها شيوعا تبدأ على النحو التالي: تحدث طفرة (قائمة على الموارد الطبيعية أو العثور على أسواق جديدة للصادرات الصناعية أو حتى تطبيق إجراءات معقولة لتحرير السوق)، يبدأ القطاع الخاص في التوسع ويصبح الاقتراض من الخارج أمرا أكثر يسرا بالنسبة للشركات الكبرى. تصبح القروض بالدولار الأمريكي (أو غيره من العملات الأجنبية) أكثر جاذبية لأنها تنطوي على سعر فائدة أدنى مقارنة بالاقتراض بالعملة المحلية.


تفتتن النخبة المحلية بالبنوك الاستثمارية الدولية – وهذه النخبة تضم السياسيين والاقتصاديين صانعي القرار – وبالحديث عن أن بلادهم تغيرت والعالم كله قد تغير، وأن اقتراض المزيد من الأموال إجراء منطقي للغاية. ولا يحتاج إقناع النخبة بهذه الحجج للكثير، حيث يرغب صانعو القرار في الاعتقاد بأنهم تمكنوا أخيرا من العثور على إكسير النمو الاقتصادي وأنهم، في السنوات الأخيرة، نجوا من الحلقات الطويلة من الركود وتباطؤ النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

ويبدو اللجوء الاقتراض – تعزيز الرافعة المالية كما يطلقون عليه – أشبه بالسحر في أوقات الرفاه الاقتصادي. فأنت إذا خصصت أموالا أقل لشراء أصل ما (أي إذا وضعت حقوق ملكية أقل وقروضا أكثر في المشتريات) وكانت قيمة الأصل مرشحة للارتفاع فإنك تكون بهذا قد حققت عائدا ممتازا على حقوق الملكية، لكنك لن تفكر عندئذ بالعوائد المعدلة في ضوء المخاطر (ما يحدث عندما يهبط سعر الأصل). حقوق ملكية أقل تعني أن قيمة القروض سوف تتجاوز قيمة الأصل في وقت أقرب مما تتصور.

عندما نجمع كل ما سبق في بوتقة واحدة سنجد أننا أمام وصفة تقليدية للضعف الاقتصادي؛ فالتدفقات الرأسمالية الواردة (الاقتراض من الخارج ودخول الأجانب إلى سوق الأسهم المحلية) تنزع في العادة إلى إبقاء أسعار الصرف في قيمة مرتفعة نسبيا مقارنة بالوضع المعاكس، وهذا يؤدي لتعزيز الواردات وإضعاف الصادرات. وبالتالي فإن من السهل أن يتراكم عجز الحساب الجاري للدولة (بمعنى أن الدولة تشتري سلعا وخدمات من سائر أنحاء العالم أكثر مما تبيع).

يبقى الوضع المذكور قائما ما دامت رؤوس الأموال تتدفق من الخارج، وخاصة ما دامت الشركات قادرة على الاقتراض بالدولار الأمريكي. وقد أشار جون بلودرون وروبا دوتاغوبتا وجايمي غوجاردو من صندوق النقد الدولي في ورقة بحثية حديثة بعنوان "التدفقات الرأسمالية متقلبة: في أي زمان وأي مكان" إلى أنه منذ عام 1980 على الأقل "أصبحت التدفقات الرأسمالية الخاصة متذبذبة بطبيعتها في كافة الدول، المتقدمة والناشئة على حد سواء، في جميع المراحل الزمنية".

لا يملك أحد مناعة من الطبيعة المتقلبة للائتمان في الاقتصاد العالمي؛ فالبنوك العالمية تتعامل مع الدول بشكل ودود ثم ما تلبث أن تنقلب عليها بالكامل – على سبيل المثال، لأنها تشعر (كما هي الحال الآن) بأن النمو في الصين وغيرها من الأسواق الناشئة يتباطأ من دون شك.

ولا يمكن تفادي التغير في القناعات أيضا. السؤال المطروح الآن هو: ما مقدار الرفع المالي الذي تملكه الدولة عندما يحدث ذلك وكم تحتاج من القروض لكي تعيد تمويل نفسها بينما يسود الأسواق مشاعر سلبية حيال احتمالات نموها؟

وبينما يمثل الوصف العام أعلاه إطارا مفيدا للفهم، فإن الحالة الهندية تتميز بمواصفات خاصة بها، وهذا ما أكد عليه المحاضر في جامعة بنسلفانيا ديفش كابور وزميلي في معهد بيترسون للاقتصاد العالمي أرفيند سوبرامانيان. وعلى وجه الخصوص، لم يرتكب صانعو القرار خطأ التمسك بسعر ثابت للصرف (أي أنه لا يوجد التزام صريح بربط الروبية بسعر ثابت للصرف مع الدولار الأمريكي).

ونتيجة لذلك فإن الروبية معرضة لانخفاض قيمتها دون ضجيج كبير، وينبغي أن يؤدي هذا الإجراء بحد ذاته مع مرور الزمن إلى المساعدة على تقليص الواردات وزيادة الصادرات. كما أن الديون الخارجية للهند مرتبطة بالقطاع الخاص في معظمها والوضع المالي للحكومة – على ضعفه – ليس بدرجة الضعف التي رأيناها في دول أميركا اللاتينية في الثمانينيات أو في بعض الدول الأوروبية في وقت أقرب.

(توخيا للدقة: هناك عجز ضخم في الميزانية السنوية – يعادل 9 بالمائة تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي – لكن النمو الحالي وارتفاع مستوى التضخم يعني أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي سوف تبلغ 66 بالمائة في نهاية عام 2013. الحديث هنا عن الدين الإجمالي كما ورد في أحدث تقارير المتابعة المالية لصندوق النقد الدولي الذي لا يجمع بيانات عن صافي الدين الحكومي).

ما تزال احتياطيات الهند من العملات الأجنبية في مستويات قوية نسبيا، على الأقل عند مقارنتها بتجارب الأزمات الماضية في أماكن أخرى.

ونحن لا نهدف هنا إلى التقليل من أهمية الضغوط القائمة، فمن المعلوم أن تراجع سعر العملة المحلية يؤدي إلى رفع مستويات التضخم، وهذا يعود بصورة كبيرة إلى أن الهند تستورد نسبة كبيرة من النفط الذي تستخدمه (أسعار النفط مقومة بالدولار الأمريكي، وهذا يعني أن انخفاض سعر الروبية يؤدي على الفور إلى رفع الأسعار المحلية).

تعزز التراجع في الثقة بالاقتصاد الهندي بفعل تعارض السياسات الذي وقع في الشهور الأخيرة، ما شجع السكان المحليين على نقل أموالهم إلى خارج البلاد. لكن الإشارات التي يقدمها البنك المركزي حول سياساته آخذة في التجسد بوضوح أكبر، مع الميل إلى بعض التشدد في الإجراءات، مثل زيادة أسعار الفائدة بنسب طفيفة، خاصة بعد تعيين راغورام راجان محافظا جديدا للبنك المركزي. (سبق أن عملت لدى السيد راجان في عامي 2004-2005 عندما كان كبيرا للاقتصاديين في صندوق النقد الدولي ثم توليت المنصب بعد رحيله).

على الرغم مما سبق، لا يزال الساسة يمارسون الضغط للمحافظة على استمرار النمو الاقتصادي قبل الانتخابات المقررة في مطلع عام 2014، وبالتالي فإننا لا نتوقع المزيد من التشدد في السياسة المالية. وإذا لم يعمد الاحتياطي الفدرالي إلى تبني سياسة نقدية أكثر تشددا في الولايات المتحدة – المتمثلة حاليا في تقليص مشترياته من السندات – فإن ذلك سوف يؤدي في الغالب إلى زيادة أسعار الفائدة وربما جذب المزيد من رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة.

إن وظيفة الاحتياطي الفدرالي – بحكم القانون والتوافق – هي الاهتمام باقتصاد الولايات المتحدة، بالرغم من أن المسؤولين في واشنطن لا يمانعون من تقديم مساعدات خارجية عندما تسوء الأحوال بدرجة كافية (على سبيل المثال، الأموال التي تم تقديمها للبنوك الأوروبية بصورة مباشرة وغير مباشرة في الأيام الحالكة من عامي 2008 و2009).

ذكر تيرنس تشيكي من بنك نيويورك الاحتياطي الفدرالي نصف الحقيقة عندما قال مؤخرا: "الأساسيات تبقى أساسية" وأضاف: "لقد علمتنا التجارب أنه لا يمكن المبالغة في الحديث عن أهمية الإدارة الاقتصادية السليمة، والمواقف المالية القوية، والسياسات النقدية الموثوقة والمبادرة، والإشراف الدقيق على القطاع المالي".

كان تشيكي يتحدث عن المنظور الأمريكي تجاه ما يتعين على الأسواق الناشئة أن تفعله – والمسار الذي يتوجب على الهند أن تقنع المستثمرين الأجانب بأنها تتبعه. ولم يكن بالطبع يتحدث عن الولايات المتحدة التي نجد فيها إدارة اقتصادية مترددة، وموقفا ماليا ضعيفا (وأزمة موازنة وشيكة في أكتوبر)، وسياسة اقتصادية ما زالت تكافح لكي تتأقلم مع تداعيات الرقابة الفاشلة على القطاع المالي (وهو تطور سلبي نشأ خلال العقود المنصرمة ويتحمل بنك نيويورك الاحتياطي الفدرالي جزءا من المسؤولية عنه).

عندما تواجه الولايات المتحدة أزمة خطيرة، كما في خريف 2008، فإن العالم يصبح غير مستقر وتتدفق رؤوس الأموال إلى الولايات المتحدة لأن الدولار هو عملة الاحتياطيات النقدية.

أما عندما تواجه دولة مثل الهند أزمة، ربما تكون لأسباب محلية وربما تكون أيضا متأثرة بما حدث في الولايات المتحدة، فإن رؤوس الأموال تغادر البلاد إلى الملاذات الآمنة (ومنها الولايات المتحدة).

يمكنك أن تفرك يديك غيطا من هذا النظام كما تشاء، وقد اشتكى منه محافظو البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم على نحو غير مسبوق خلال الأسابيع الأخيرة، لكن هذا هو أسلوب العمل السائد في العالم، وهذا ما سيبقى عليه الوضع في المستقبل المنظور على الأقل.

والرسالة التي يجب أن يعيها المقترضون هي ضرورة توخي الحذر: بينما تتجه الولايات المتحدة إلى مواجهة مجنونة جديدة حول سقف الديون للحكومة الاتحادية، تواجه الأسواق الناشئة المثقلة بالديون مخاطر حقيقية.   


* أستاذ ريادة الأعمال في كلية إدارة الأعمال بجامعة ماستشوستس للتكنولوجيا، شارك في تأليف كتاب: "البيت الأبيض يحترق: الآباء المؤسسون، وديوننا المحلية، ولماذا يهمك الأمر".