ضجت الأمة العربية من محيطها إلى خليجها بالاحتفالات عندما تنحى حسني مبارك عن الحكم في مصر منهيا بذلك 30 عاما من الظلم والاضطهاد. ورأينا من كبار قادة الرأي وصغارهم من يشيد بإنجاز الشباب ويحيي ثورتهم، ومنهم من بادر إلى الاعتذار من شباب مصر خاصة وشباب العرب عامة على التجني الذي كان منهم عندما وصفوهم بأنهم كسالى لا يركضون إلا وراء نزواتهم وشهواتهم. واليوم رأيت رسم كاريكاتير يسخر من "الإرهابيين" الذين يريدون التغيير بالسيف ويفشلون دوما في مسعاهم، في مقابل الشباب الذين حققوا هذا التغيير بالاحتجاج السلمي.
نبدأ بتساؤل بسيط عن موضوع هذه الثورة ومستهدفها الأول: حسني مبارك. فأين هو الآن؟ قبل يومين خرج علينا رئيس الوزراء –الذي عينه مبارك- يقول إن الرئيس (ولم يقل الرئيس المخلوع أو السابق مثلا) مبارك موجود الآن في منتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر. فأي ثورة هذه؟ الطاغية الدكتاتور –كما وصفوه- جالس في أجمل منتجعات البلاد دون حساب ولا عقاب، والعجيب أن أحدا من هؤلاء الثوار لم يطالب باعتقاله مثلا أو بمحاسبته أو حتى بإخراجه من أرض مصر. ولعل ما يزيد من غرابة الأمر أن شرم الشيخ ظلت دائما المكان الأثير لدى هذا الرجل أيام رئاسته، وكان يعقد فيها معظم لقاءاته السياسية وغير السياسية، ويستضيف فيها المؤتمرات والاجتماعات.
وأسأل ما الذي تغير ونحن نرى قادة الجيش يمسكون بزمام الأمور الآن في مصر، وهم الذين أنزلهم مبارك إلى الشوارع قبل أسابيع ليهدئوا من روع المتظاهرين فتظاهروا بالحياد ولم يحركوا ساكنا رغم أنهم رأوا بأعينهم هجوم أنصار مبارك على خصومه. وهذا لعمري حياد مغلف بالانحياز، بل هو الانحياز بعينه إلى مبارك وملئه. والآن، بعد أن انجلى الغبار، يأتي هؤلاء القادة أنفسهم ليحكموا البلاد والعباد ويتحدثوا عن استعادة النظام الذي رأوه ينهار أمامهم فلم يحركوا ساكنا. فالنظام هو عودة المحتجين عن احتجاجهم وليس عودة الظالمين عن ظلمهم.
ولقد ظهرت مع الثورة ظواهر كنا نتمنى أن تزول لكنها زادت قوة وبأسا، منها على سبيل المثال وضع الفنانين في مقدمة الصفوف كأنما هم من سادة المجتمع وقاداته، بينما يعلم الجميع أن جلهم لا ينتمون إلا إلى قاع القاع في المجتمع وأنهم آخر من يحق له الحديث في أمور العامة وإبداء الرأي أصلا. ورأينا من أبناء مصر من يدافع عن مبارك ويقول إنه بطل في الحرب والسلام ولا يجوز معاملته بهذه الصورة، ورأينا منهم من يعيب على الثائرين ثورتهم ويقلل من أهمية ما صنعوه، من منظور غير المنظور الذي نتحدث عنه هنا، وهم أحرار في آرائهم بالطبع لكن الخطأ في الاستماع إليهم وفي منحهم مساحة للتعبير تزيد على حجمهم الحقيقي.
لا يملك أحد أن يشكك في أهداف هذه الثورة وغاياتها، لكنني أول المشككين في نجاحها وفي إنجازاتها. فالحقائق تشير بوضوح إلى أن شيئا لم يتغير، وأن مبارك وزمرته باقون في مناصبهم وفي بلادهم حتى لو كفت أيدي بعضهم شيئا قليلا. ما حدث لا يكفي ولا يشفي الغليل، ولا بد من ثورة حقيقية تقتلع هؤلاء من جذور جذورهم إن أراد المصريون بأنفسهم وبلادهم خيرا.
أما صاحب الكاريكاتير الذي ذكرت في البداية فالأيام بيني وبينه والتاريخ بيننا والحقائق. التغيير السلمي أطاح بمبارك وألقى به في منتجع شرم الشيخ، والثورة الفرنسية أطاحت بحكم أسرة ملكية حكمت قرونا طويلة وألقت برؤوس أفرادها إلى المقصلة. ولو كانت الثورة الفرنسية سلمية كما أراد هذا الرسام لرأينا لويس الثاني والثلاثين جالسا على عرش المملكة الفرنسية الآن ربما.
ولعل هذا البيت الشهير، الذي قاله مصري ولم يقله فرنسي ولا إرهابي، يفي بما نريد: وللحرية الحمراء باب/ بكل يد مضرجة يدق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق