كثيرا ما سمعنا، في حصص التاريخ بالمدارس
الثانوية وفي حفلات الشواء، أن الإنفاق الحكومي خلال الحرب العالمية الثانية
"أخرجنا من الكساد الكبير". تدل هذه المقولة على أن نهاية الكساد العظيم
كانت عرضية، وكانت بالضرورة عسكرية.
لكن كيفية قيام الحرب العالمية الثانية
بإخراجنا من الكساد الكبير ظلت محل تجاهل، بالرغم من أنها تقدم درسا يتناقض مع
التفسير المتفق عليه.
لقد مثلت الحرب فرصة كبيرة لظهور وانتعاش عدد
كبير من الصناعات. على سبيل المثال، لم تكن للطائرات أهمية تذكر في الحرب العالمية
الأولى، لكنها لعبت دورا بالغ الخطورة في المعارك خلال الحرب العالمية الثانية. وكانت
المشكلة لدى الجيش الأمريكي تتمثل في أنه لا يملك سوى القليل من الطائرات، والقليل
من الموارد اللازمة لتصنيعها. لم يكن الأمر من البساطة بحيث تنزل الحكومة للسوق
وتشتري بعض الطائرات، بل كان عليها أن تخلق هذا السوق. وقد فعلت.
في توليفة عبقرية بين المال والسياسة، أسست
الحكومة مؤسسة الصناعات الدفاعية (DPC) في العام 1940. تولت
إدارة المؤسسة لجنة من كبار رجال الأعمال من مختلف قطاعات التجارة من بينهم وليام
نودسين (الذي ساعد في تنظيم خطوط الإنتاج لدى "فورد" ثم أصبح رئيسا
لشركة جنرال موتورز)، ودونالد نيلسون (نائب رئيس شركة سيرز وروبك وشركاهما)، ورالف
باد (رئيس شركة قطارات شيكاغو وبيرلنغتون وكوينسي).
قبل إنشاء مؤسسة الصناعات الدفاعية، كان
الإنفاق الرأسمالي الممول من الحكومة لا يتجاوز 5 بالمائة من مجموع الاستثمارات
الأمريكية السنوية في مجال الصناعة. وبحلول العام 1943، وبفضل مؤسسة الصناعات
الدفاعية، قفزت مساهمة الحكومة إلى 67 بالمائة من الاستثمارات الصناعية، مما أدى
إلى تحول هائل في كمية الإنتاج الصناعي وفي طبيعة المنتجات نفسها.
في العام 1940، على سبيل المثال، لم يكن
إنتاج شركة داو للصناعات الكيميائية من المغنيسيوم –المستخدم في صناعة هياكل
الطائرات- يتجاوز ستة ملايين رطل في السنة في مصنع واحد بولاية ميتشيغان. وساعدت
القروض التي قدمتها مؤسسة الصناعات الدفاعية لشركة ألكوا على رفع الإنتاج إلى 600
مليون رطل سنويا. وفي العام 1939، كان الجيش يملك 28 مطارا ارتفع عددها خلال الحرب
إلى 1,000. وهذا يعني أن الحكومة تمكنت، في ضربة واحدة، من إيجاد البنية التحتية
والقدرات الصناعية اللازمة للنهوض بقطاع صناعي جديد بالكامل.
ومع انتهاء الحرب، بلغ حجم صناعة الطيران
الأمريكية أربعة أضعاف حجم صناعة السيارات، والتي ظلت تمثل العمود الفقري للاقتصاد
الأمريكي لأكثر من عشرين عاما.
واليوم، ننظر باندهاش إلى مدى سرعة وكفاءة
مؤسسة الصناعات الدفاعية في إحداث تحول جذري في الاقتصاد. لقد نجحت السياسات
العملية التي تبنتها في الجمع بين الاستراتيجيات المختلفة للصناعة الوليدة، بما في
ذلك الملكية الحكومية (تم بيعها للعامة بعد انتهاء الحرب)، والتمويل المباشر،
والتأمين غير المباشر لرؤوس الأموال الخاصة، وتسارع برامج الاستهلاك. لم تكن
المسألة معقدة بل كانت في منتهى البساطة وكانت، بالنسبة لذلك الوقت، تنم عن عقلية
مالية فذة.
والمؤسف اليوم، بالنسبة للمؤرخين على الأقل،
هو أن مؤسسة الصناعات الدفاعية باتت طي النسيان. لقد أرخ لها جيرالد وايت على نحو
بديع، لكنها لا تزال مجهولة خارج دائرة المختصين. لقد كانت قصة تطوير صناعة
الطيران الأمريكية تعتبر نصرا حتميا للتكنولوجيا تحقق بفعل نشوب الحرب. والواقع أن
تطوير صناعة الطيران الحربية لم يكن حتميا، وإنما كان نتيجة لقرارات حصيفة اتخذها
صانعو قرار ورجال أعمال أفذاذ.
لم تكن نهاية الكساد ناتجة ببساطة عن مجرد
ازدياد الطلب على المعدات الحربية، بل لأن الحكومة استغلت الطلب على المعدات
الحربية في تطوير الصناعة الأمريكية. لقد ساعد تمويل تلك الصناعات البلاد على
الخروج من حالة الكساد وأسس قطاعا جديدا وهاما في الاقتصاد. وتعتبر صناعة الطيران
والمجالات المرتبطة بها من أبرز مكونات الطفرة التي شهدتها البلاد بعد انتهاء
الحرب.
لقد تم استثمار رأس المال الخاص في صناعة
مربحة، وهذا هو سر النجاح لأي اقتصاد.
*أستاذ مشارك في تخصص التاريخ بجامعة كورنيل
ومؤلف كتاب: "الدولة المدينة: تاريخ أميركا بالحبر الأحمر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق