يستحضر مصطلح عسر القراءة/ دسلكسيا** المعاناة
الكبيرة التي يجدها المصاب أثناء ممارسة القراءة، ولا شك في أن هذه الصعوبة
التعلمية تسبب الكثير من المعاناة لحوالي 15 بالمائة من الأمريكيين ممن يعانون
منها. ومنذ بداية توثيق ظاهرة "عمى الكلمات" لأول مرة قبل أكثر من قرن
من الآن شرع العلماء في البحث في أسباب الدسلكسيا والأساليب التي يمكن أن تستخدم
في معالجتها، وظل هذا الوضع قائما حتى السنوات الأخيرة التي شهدت تحولا مفاجئا في
مسار البحث، حيث انتقل التركيز إلى التعرف على المهارات التي يملكها ذوو صعوبة
القراءة ويتفوقون بها على أقرانهم من القراء العاديين. لقد أدت الاكتشافات الأخيرة
حول الدسلكسيا إلى إيجاد منحى جديد لتناول هذه الحالة يتمثل في اعتبارها ميزة وليس
مجرد إعاقة، خاصة في مجالات علمية وفنية معينة.
تعد الدسلكسيا اضطرابا معقدا، ولا يزال
الكثير عنها غير معلوم لغاية الآن. إلا أن سلسلة من التجارب الرائدة حولها أثبتت مؤخرا أن الأفراد الذين
يعانون من الدسلكسيا يتمتعون قدرات إدراكية متميزة. على سبيل المثال: جمع العلماء
قدرا كبيرا من الأدلة التي تثبت أن ذوي عسر القراءة يتمتعون برؤية محيطية أكثر حدة
من أقرانهم. وقام غاري غايغر وجيروم ليتفين، وهما عالمان متخصصان في المجال
المعرفي في معهد ماستشوستس للتكنولوجيا، باستخدام جهاز ميكانيكي يدعى التاكيستوسكوب
في عرض صفوف من الحروف تمتد من مركز رؤية المفحوص إلى الأطراف.استطاع القراء
العاديون التعرف على الحروف الموجودة في وسط الصف بدقة أكبر، بينما تفوق المصابون
بعسر القراءة في القدرة على التعرف على الحروف الموجودة على الأطراف.
إن النتائج التي توصل إليها غايغر وليتفين،
والتي أكدتها مجموعة من الدراسة اللاحقة، تقدم إثباتا عمليا للحقيقة القائلة إن
الدماغ يتولى بشكل منفصل معالجة المعلومات المتدفقة من مركز المجال البصري
وأطرافه. إضافة إلى ذلك، فإن هذه القدرات تعمل كما يبدو بالتبادل: إذا كنت معتادا
على التركيز على التفاصيل الموجودة في مركز مجالك البصري (وهي مهارة ضرورية
للقراءة) فمن المرجح أن تكون أقل قدرة على تمييز المعالم والأنماط الموجودة في
أطراف المجال البصري.
والعكس أيضا صحيح: الأفراد المصابون بعسر
القراءة، الذين يركزون على أطراف المجال البصري، يكونون أكثر قدرة على النظر إلى
مجمل المشهد- وهذه المهارة هي ما يدعوه الباحثون "التركيز على الجوهر
البصري".
وقد أمكن الحصول أدلة مثيرة على أن المصابين
بعسر القراءة يستطيعون معالجة المعلومات من المحيط البصري بصورة أسرع من أقرانهم في
دراسة "الأشكال المستحيلة" كما في الأشكال التي رسمها الفنان م. ك.
إيشر، والذي يقود اقتصار التركيز في رسوماته المعقدة على عنصر واحد منها إلى
الاعتقاد بأن الصورة بمجملها تمثل نظاما فيزيائيا مقبولا.
لكن النظر إلى رسومات إيشنر بطريقة أكثر
اتساعا تأخذ الصورة بمجملها دفعة واحدة تكشف أن السلالم في هذه الرسومات إنما لا
تقود إلى أي مكان، وأن المياه في نوافيره تتدفق للأعلى بدلا من الأسفل- أي أن هذه
الرسومات- باختصار- مستحيلة. وقد وجدت الدكتورة كاتيا فون كارولي، وهي أستاذة الفلسفة
المساعدة في جامعة وسكونسن، أن الأفراد المصابين بالدسلكسيا عندما عرضت عليهم
رسومات مبسطة شبيهة برسومات إيشنر، استطاعوا أن يدركوا أن هذه الرسومات مستحيلة
خلال 2.26 ثانية بالمتوسط، بينما احتاج العاديون لوقت يزيد على ذلك بمقدار الثلث.
وقد ذكرت فون كارولي في مقال نشرته بمجلة (الدماغ واللغة) أن "النتيجة الملحة
لهذا الاكتشاف هي أنه لا يجوز وصف الدسلكسيا بأنها إعاقة فحسب بل هي موهبة أيضا".
يثير اكتشاف هذه المواهب تساؤلا حتميا حول ما
إذا كانت هذه القدرات تتمثل في مهارات الحياة اليومية. وبالرغم من أن المصابين بالدسلكسيا
موجودون في كل المهن، كالطب والقانون والعلوم، فقد لوحظ منذ فترة طويلة أن أعداد
كبيرة منهم تميل إلى مجالي الفنون والتصميم على وجه الخصوص. تأسس مركز ييل
للدسلكسيا والإبداع قبل خمس سنوات بهدف دراسة مواهب المصابين بالدسلكسيا وتسليط
الضوء عليها، وقبله بعامين تأسس مختبر التعلم البصري (وهو تابع لمركز هارفرد - سميثسونيان
للفيزياء الفلكية) لدراسة المميزات التي تتيحها الإصابة بالدسلكسيا في المجالات
العلمية التي تتطلب قدرات بصرية حادة. يلاحظ مدير المركز ماثيو شنيبس، وهو عالم
متخصص في الفيزياء الفلكية، أن على العلماء في مجال عمله أن يتعاملوا مع كميات
هائلة من البيانات البصرية ويستخلصوا الأنماط الدقيقة التي تشير لوجود أجسام فلكية
مثل الثقوب السوداء.
في العام 2011 نشر شنيبس مع عدد من زملائه
دراستين في مجلة الجمعية الفلكية الأمريكية أشاروا فيهما إلى أن الإصابة بالدسلكسيا
يمكن أن تعزز من القدرة على القيام بتلك المهمات. ذكر شنيبس في الدراسة الأولى أنه
عند عرض الإشارات الراديوية – وهي تمثيلات بيانية لموجات راديوية قادمة من الفضاء
الخارجي – استطاع علماء الفيزياء الفلكية من المصابين بالدسلكسيا في كثير من الأحيان
أن يتفوقوا على أقرانهم في التعرف على الخصائص المميزة للثقوب السوداء.
أما في الدراسة الثانية فقد قام شنيبس بوضع
غشاوة على المعالم التفصيلية في مجموعة من الصور الفوتوغرافية بحيث بدت شبيهة
بالصور الفلكية ثم عرضها على عدد من طلاب الدراسات العليا في تخصص الفيزياء
الفلكية من المصابين بالدسلكسيا وغير المصابين، وتبين له أن الطلاب المصابين
بالدسلكسيا استطاعوا تمييز المعلومات في الصور والاستفادة منها بينما عجز أقرانهم
عن ذلك.
وبالنظر إلى أن الدسلكسيا تعد على نطاق واسع
إحدى "صعوبات التعلم" فإن التجربة الأخير تحمل أهمية خاصة: ففي بعض
الأحيان يستطيع المصابون بالدسلكسيا أن يتعلموا بصورة أفضل من أقرانهم.
وليست دراسة شنيبس فريدة من نوعها. ففي العام
2006 نشر أستاذ علم النفس في الجامعة الكاثوليكية الأمريكية جيمس هوارد مقالا في
مجلة (علم النفس العصبي) وصف فيه دراسة طلب فيها من المفحوصين استخراج الحرف (T) من بين عدد كبير من حروف (L) التي كانت تطفو على شاشة الحاسوب، وتبين له أن
المصابين بالدسلكسيا استطاعوا تمييز الحرف المطلوب بسرعة أكبر من أقرانهم.
وبغض النظر عن القدرات الخاصة التي يتمتع بها
المصابون بالدسلكسيا فإننا لا نستطيع أن نتجاهل حقيقة أن عسر القراءة لديهم يمثل
إعاقة لهم. إن الحديث العفوي عن تقدير الدسلكسيا بوصفها "موهبة" لا يقدم
الكثير من العون بل قد يؤدي في كثير من الأحيان للإضرار للمصابين بهذه الحالة. وفي
الوقت نفسه فإن التعرف على القدرات المميزة لهؤلاء الأفراد سوف يساعدنا على فهم
حالتهم على نحو أفضل، وربما يساعدنا أيضا على توجيه التعليم المقدم لهم بحيث يعالج
نقاط الضعف لديهم ويعزز جوانب القوة.
*مؤلفة كتاب "الأصول"، وهي تعمل
حاليا على تأليف كتاب حول علم التعلم.
** آثرت أن أستخدم المصطلحين بالتبادل في هذه
الترجمة لعلمي أن كليهما مستخدم في مختلف الجامعات ودوائر الاهتمام العربية، وثمة
مصطلح ثالث هو "صعوبة القراءة" لم أستخدمه لأنني وجدته الأقل شيوعا،
والله أعلم – المترجم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق