تحل يوم 11 فبراير الذكرى الأولى
لسقوط الرئيس المصري حسني مبارك، لكن الذكرى لن تكون سعيدة كما يبدو. لا شك في أن
ميدان التحرير وما حوله سوف يشهد بعض احتفالات ينظمها ما تبقى من الشباب المتحمس
الذي كان وقود انطلاقة الثورة في يوم عيد الشرطة: 25 يناير 2011، لكن هذه الذكرى
تأتي في ظل انقسامين خطيرين: الانقسام بين الجيش والشعب، والانقسام بين الجيش
وإدارة أوباما والكونغرس الأمريكي.
لقد كان سقوط حسني مبارك بالفعل
حدثا ثوريا لا شك فيه، وهذا ينطبق على الثورات الأخرى: الشرارة الأولى – الثورة في
تونس القريبة – تلاها هيجان شعبي كبير أدى لانهيار النظام القديم ووضع جدول زمني لإقامة
نظام جديد للحكم. تمت معاقبة أفراد الدائرة القريبة من مبارك، وخضع الرئيس المخلوع
نفسه للمحاكمة بتهمة "القتل العمد" للمتظاهرين السلميين.
تولى هذه العملية بأكملها،
وبمباركة من الولايات المتحدة، المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يضم القيادة
العسكرية العليا، برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي البالغ من العمر 76 عاما، وكبار
مسؤولي المخابرات العامة، الذين يكونون هم أنفسهم من العسكريين ويعتبرون الآن مصدرا رئيسيا
للاستشارات السياسية للجنرالات. يرزح هذا المجلس تحت ضغوطات مستمرة ، بل يومية، من
الرئيس الأمريكي باراك أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وهو يحاول الالتزام بالبرنامج
الزمني لبناء نظام دستوري جديد. وفي الوقت نفسه يعمل المجلس على الحفاظ على حصانة
موقعه بما في ذلك ميزانيته الضخمة وإمبراطوريته الاقتصادية الفاسدة.
الدعم العسكري
اتسعت حدة الانقسام في الرأي العام
المصري بين من يعدون الجيش آخر حصن للنظام العام وبين من يرون فيه قوة فاشلة عاجزة
(يقال إن الجيش لا يستطيع تنفيذ أي مناورة عسكرية مهما كانت بسيطة). وما زاد الطين
بلة هو أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أصبح مسؤولا ومعتمدا في الوقت ذاته على
قوات أمن وشرطة تعرضت لانتقادات لاذعة بسبب تصرفاتها أثناء إخلاء ميدان التحرير
وتخاذلها عن وقف العنف في مباراة كرة القدم بمدينة بور سعيد، مما جعلها محل شكوك
لها ما يبررها.
ومنذ صعود الإخوان المسلمين إلى
سدة السلطة السياسية في الانتخابات الأخيرة، تحولت علاقة الجنرالات بهذا الحزب إلى
مصدر للقلق أيضا. لقد اتفق الطرفان، بالتراضي أو بدونه، على التعامل مع بعضهما تحت
مظلة النظام الدستوري الجديد، حيث يدفع الإخوان باتجاه إقامة نظام برلماني تكون
الرئاسة فيه ضعيفة نسبيا بينما يريد الجيش أن يظل بمنأى عن الخضوع للسياسيين والمساءلة
أمامهم.
هذا الوفاق الإجباري كان، بالنسبة
للطرفين، نتيجة للقلق من الحالة الحرجة التي يعيشها الاقتصاد المصري والخشية من تصاعد
المد الثوري في صفوف الشباب. وفي الوقت نفسه بقيت الأجندة الثورية الحقيقية مجمدة :
إنهاء وحشية الشرطة وإلغاء المحاكمات الجنائية التعسفية وتطوير النظام التعليمي
المهترئ.
والآن، وفوق كل ما سبق، يأتي
اعتقال 19 مواطنا أمريكيا من المرتبطين بمجموعة من المنظمات المحلية غير الحكومية،
والبعض منهم مرتبط شخصيا بأعضاء في الكونغرس الأمريكي. لا نعلم السبب الذي دفع طنطاوي
ورفاقه في المجلس العسكري لاختيار هذا التوقيت لمواجهة التهديد الأمريكي المتكرر
بإمكانية إعادة النظر في الدعم العسكري السنوي المقدم لمصر بقيمة 1.3 مليار دولار.
هل سئموا الضغط المتواصل عليهم؟ هل ما زالوا يظنون أنهم حماة النظام الوحيدين؟
ربما كانوا يرجعون بذاكرتهم إلى مطلع السبعينيات عندما أقدم نظام الرئيس أنور
السادات على تحدي الاتحاد السوفيتي الذي كان آنذاك المزود الرئيسي للأسلحة لمصر.
حقائق دبلوماسية
بالرغم من ذلك، من المتوقع أن تبقى
العلاقة قوية بين الولايات المتحدة ومصر، وإن كان على نطاق أصغر. تعد مصر حليفا
هاما للولايات المتحدة لأن حدودها ملاصقة لإسرائيل وقطاع غزة ولأنها ما تزال قادرة
على تقديم نموذج أمام بقية العرب للتحول الناجح إلى الديمقراطية. من ناحيته يبدو
الجيش المصري عازما على التخلص من صداع الحكم، والذي أدى إلى تلطيخ صورته أمام
المصريين وسلبه الشرعية التي كان قد اكتسبها بوصفه حاميا للثورة. ولا شك في أن هذا
كان السبب الذي دفع المجلس العسكري إلى تقديم موعد فتح باب الترشح للانتخابات
الرئاسية شهرا واحدا إلى 10 مارس.
ومع انتهاء السنة الأولى بعد
اندلاع الثورة المصرية، يقدم المصريون مثالا يحتذى لأقرانهم في ليبيا – حيث تجري
الاستعدادات لإجراء انتخابات يليها صيغة دستور جديد – ونموذجا مضادا لدول قاوم
حكامها الاحتجاجات الشعبية بضراوة مثل السودان واليمن وسوريا.
هناك ثلاثة دروس مستخلصة: أولا:
وكما حصل مع نظام زين العابدين بن علي في تونس، لم تتمكن حكومة مبارك من إخضاع
المجتمع المدني بالرغم من كل جبروتها وتسلطها. كان المجال مفتوحا أمام العمال لكي
يدافعوا عن حقوقهم ولشباب الطبقة الوسطى كي يتكاتفوا عبر الإنترنت والإعلام
الاجتماعي.
ثانيا: عندما حان وقت الثورة امتنع
الجيش المصري عن استخدام القوة في قمع المتظاهرين، حيث خشيت القيادة ببساطة من أن
بعض الجنود ربما يرفضون إطلاق النار على المحتجين. وبالرغم من أن الرئيس السوري
بشار الأسد كان قد اتخذ إجراءات مضادة تضمن له ولاء بعض الوحدات العسكرية على
الأقل فإن أعدادا متزايدة من المنشقين يعلنون رفضهم إطلاق النار على أبناء جلدتهم.
برنامج للثورة
ثالثا: يمكن استخلاص الكثير من
تجربة الثورة المصرية فيما يتعلق بمسار وسرعة تنفيذ الجدول الزمني الذي يجب أن
تتبعه الثورات الناجحة. يجب إجراء انتخابات لجمعية تأسيسية يليها انتخاب رئيس
جديد، ثم يلي ذلك تنصيب حكومة جديدة. وخلال هذه العملية يؤدي تضارب المصالح إلى
صعوبة الاحتفاظ بالوحدة التي نشأت عن الكفاح ضد النظام القديم. إن إنشاء وقبول
نظام سياسي تعددي يحتاج إلى الصبر.
وهناك مسألة أخيرة تتعلق بالعقاب
العادل الذي يستحقه الطغاة المتساقطون إذا ظلوا على قيد الحياة بعد الثورة عليهم.
فبالرغم من أن مبارك يخضع للمحاكمة بتهم ظاهرية كالقتل والفساد، فإن جريمته
"الحقيقية" كانت في فرض حياة من الخوف واليأس وكراهية الذات على الشعب
المصري، والتي لم يخرجهم منها سوى ثورتهم عليه.
والحقيقة المرة التي لا بد من
ذكرها هي أن الثورات طويلة وصعبة المراس، والجزء الأسهل فيها هو إسقاط النظام
القديم بينما تحتاج إقامة نظام سياسي جديد إلى سنوات طويلة. فلنأمل أن تشهد الذكرى
الثانية لسقوط مبارك ما يستحق أن يحتفل العالم به.
*أستاذ تاريخ الشرق
الأوسط في جامعة هارفرد. ألف مجموعة من الكتب من بينها "دور الدولة والسلطة
والسياسة في تشكيل الدولة في الشرق الأوسط الحديث" وكتابه المقبل "صعود
وسقوط الرئاسات العربية مدى الحياة"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق