ليونيد بيرشيدسكي*
لا بد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينظر بمزيج من التشفي والتشاؤم إلى المحاولات الحثيثة التي تبذلها اوكرانيا المجاورة لتنفيذ مهمة في غاية الصعوبة: الاحتفاظ بماء الوجه عند استضافة أبرز البطولات الكروية للقارة الأوروبية: كأس الأمم الأوروبية 2012.
لا بد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينظر بمزيج من التشفي والتشاؤم إلى المحاولات الحثيثة التي تبذلها اوكرانيا المجاورة لتنفيذ مهمة في غاية الصعوبة: الاحتفاظ بماء الوجه عند استضافة أبرز البطولات الكروية للقارة الأوروبية: كأس الأمم الأوروبية 2012.
يرى قادة دول الاتحاد السوفيتي السابق أن الفوز بحق استضافة البطولات العالمية الكبرى هو مسألة كبرياء وطني، وطريقة لوضع دولهم على الخارطة. سوف تحرز أوكرانيا قصب السبق في هذا المجال باشتراكها مع بولندا في استضافة بطولة كأس الأمم الأوروبية للعام 2012، والتي ستنطلق بعد شهرين. بعد ذلك سوف يأتي دور روسيا التي ستستضيف الألعاب الأولمبية الصيفية للعام 2014 ثم كأس العالم لكرة القدم 2018.
لكن تجربة أوكرانيا أظهرت بوضوح أن الأحلام الوردية للقادة السياسيين تتصادم مع الواقع المر. أما رجال الأعمال المحليون فإن البطولات الرياضية تمثل لهم فرصة العمر لكي ينهبوا أموال الزوار الأجانب.
بتاريخ 6 أبريل اضطر الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش إلى إصدار تعليمات خاصة للوزراء المسؤولين عن الإعداد لبطولة يورو 2012 طالبهم فيها بالعمل على تخفيض أجور الفنادق في أوكرانيا "إلى مستويات مقبولة اقتصاديا". وقد ذكرت تقارير إعلامية أن تكلفة الليلة الواحدة في أحد فنادق كييف سوف تبلغ، عند انطلاق البطولة في يونيو، حوالي 247 يورو بالمتوسط، بينما لن تزيد نظيرتها في العاصمة البولندية وارسو على 111 يورو.
وهكذا لم يكن من المستغرب أن يقرر 13 منتخبا مشاركا في البطولة من أصل 16 منتخبا المكوث في بولندا على الرغم أن ثماني مباريات في الجولة الأولى سوف تقام في أوكرانيا. ومن بين المنتخبات الثلاثة المتبقية يوجد المنتخب البولندي المحلي الذين لن يقيم أعضاؤه بالطبع في الفنادق، وبذلك لا يتبقى سوى المنتخبين السويدي والفرنسي. وقد حاول الدنماركيون استئجار فندق في مدينة أوديسا الساحلية الأوكرانية لكنهم عدلوا عنها إلى بولندا عندما رفع أصحاب الفندق سعر الإقامة فيه من 200 يورو إلى 500 يورو لليلة الواحدة.
وهذا الجشع الأعمى يفوق ما شهده محبو كرة القدم في أي دولة أخرى سبق أن استضافت بطولة بهذا الحجم، حيث كتبت مجلة "فوكس" الأسبوعية مقالا عن أحد الفنادق الرخيصة نسبيا في مدينة خاركيف والذي أصبح يتقاضى ما يعادل ثمن سيارة صغيرة لقاء الإقامة لديه خلال مدة إقامة البطولة، بينما رفعت بعض الفنادق الأخرى أسعارها لما يتجاوز عشرة أضعاف السعر الأصلي. وللمقارنة، فإن الأسعار في فنادق فيينا لم ترتفع إلا للضعف إبان إقامة بطولة يورو 2008.
وقد انتقلت حمى رفع الأسعار إلى أصحاب الشقق السكنية، الذين أصبحوا يعرضون شققهم على مشجعي كرة القدم بأجور أسبوعية تتجاوز مقدار الأجر السنوي كاملا. كما أن أجور سيارات الأجرة مرشحة للارتفاع بما لا يقل عن 20 بالمائة، والكثير من المطاعم تستعد لتعديل الأسعار في قوائمها بحيث تزداد بنسبة 50 بالمائة.
ولا يبدي المسؤولون عن هذا الغلاء الفاحش أي شعور بالندم على الرغم من الهجوم الذي شنه الإعلام الأوكراني عليهم. بل إن فندقا يدعى "إيكونوم" ويقع بالقرب من الملعب المبني حديثا في دونتسك، بعد أن رفع سعر الإقامة في الغرفة المنفردة به من 17 يورو إلى 225 يورو لليلة الواحدة، نشر على موقعه الإلكتروني رسالة يقول فيها: "حسنا أيها السادة. لقد اكتمل الحجز لدينا. نتمنى لكم حظا أوفر في البحث عن فنادق رخيصة. أكثروا من الابتسام".
لكن المبتسمين، عدا عن أصحاب الفنادق، قليلون جدا، وأقلهم ابتساما هم محبو كرة القدم الأوروبيون، وهم في مجملهم مجموعة من الأفراد الذين لا يتمتعون بميزة الدخل المرتفع. وقد نشرت مجلة "فوتبول" شكوى طويلة من صحفي ألماني لم يذكر اسمه كان قد زار أوكرانيا للاطلاع على الاستعدادات للبطولة الأوروبية. يقول هذا الصحفي: "نحن الأوروبيين لسنا قططا سمانا كما تحسبوننا أنتم ومسؤولوكم لسبب ما"، ويضيف: "نحن لا نشعر بالسعادة أبدا عندما نشعر أن أحدهم في أوكرانيا يطمع في العيش الرغيد على حسابنا".
انتشر هذا النقد اللاذع على نطاق واسع في أوساط المدونات الأوكرانية، وتلقى قدرا غير متوقع من التعاطف لدى المواطنين- على الأقل أولئك الذين لا يملكون فنادق ولا يؤجرون شققا مفروشة. وكما قال أحد المدونين: "الاختلاف معه في الرأي صعب ما لم تكن ممن أعمتهم الوطنية".
وقد صرح نائب رئيس الوزراء بوريس كولسنيكوف، وهو واحد ممن تلقوا التعليمات الرئاسية، بأنه يتفهم دوافع أصحاب الفنادق، وقال إن "الطمع يأتي غالبا بسبب الفقر" ثم استدرك بالقول:" ينبغي أن تكون الأسعار مناسبة، حتى بالنسبة للسياح الغربيين". وأضاف كولسنيكوف أن الحكومة يحق لها أن تتوقع التعاون من أصحاب الفنادق، فهي كانت قد منحتهم إعفاء ضريبيا لمدة خمس سنوات ضمن الاستعدادات لاستضافة البطولة.
وهذا الإعفاء الضريبي هو جزء صغير من الاستثمار الذي وضعته السلطات الأوكرانية في البطولة الكروية. فمنذ نيل أوكرانيا استقلالها عن روسيا قبل عشرين عاما، بذلت كييف جهودا جبارة للظهور بمظهر أكثر أوروبية من جارتها القوية إلى الشرق. وقد ذكر يانوكوفيتش أن بلاده أنفقت 3.3 مليار يورو على الإعداد للبطولة، من خلال بناء الملاعب وتوسعة المطارات وتطوير البنى التحتية. وعلى مدى شهور طويلة امتلأت المدن الأوكرانية بلوحات ضخمة تقول:" إننا نتطلع قدما لليورو".
كانت الأمور تجري في العادة على نحو أبطأ من المتوقع. وقد فشلت محاولات دونتسك لبناء أول خط للقطارات الأرضية، لكن هذا لا يمثل خسارة كبيرة للمدينة لأن الخط كان سيخترق الملعب الجديد. أما المسابقة التي تم الإعلان عنها لتصميم شعار جديد للعاصمة كييف فقد تحولت إلى شظايا بعدما ترددت سلطات المدينة في قبول التصميم الذي فاز بتصويت الجمهور على موقع إلكتروني خاص، وسرعان ما تسربت أنباء تزعم أن نجل أحد نواب عمدة المدينة كان المرشح الأقوى للفوز. وعموما فإن الشعار لن يكون جاهزا في موعد انطلاق اليورو.
ويبدو أن هذا ما سيكتشفه بوتين عندما يحل دور روسيا في استضافة نسختها الخاصة من إحدى البطولات الدولية الكبرى: لا يكفي أن تنفق الحكومة المليارات وتدعو الشعب لإبهار العالم. فالكثير من المواطنين لا يشاطرون حكوماتهم نظرتها إلى الكبرياء الوطني، أو أنهم ببساطة لا يلقون له بالا أصلا. وفي كل من روسيا وأوكرانيا يسود الاعتقاد بأن الأموال التي يجري استثمارها في الإعداد للبطولات الرياضية إنما قام بسرقتها كبار المسؤولين وأتباعهم من الشعب. وعليه فإن أفراد الشعب الذين تتاح لهم فرصة العمر للكسب لن يتوانوا عن استغلالها حتى لو أدى ذلك إلى تشويه صورة بوتين أو يانوكوفيتش.
*محرر وروائي يعمل مراسلا في موسكو وكييف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق