الأربعاء، يونيو 27، 2012

الشرعية الديمقراطية كما تحدث عنها عبدالإله بلقزيز


حضرت مؤخرا محاضرة ألقاها الأستاذ الدكتور عبدالإله بلقزيز في منتدى شومان بعمان كان عنوانها :"في أزمة الشرعية الديمقراطية" تناول خلالها بالنقد الموضوعي قضايا كثيرة ملحة، واستعرض فيها من التاريخ القديم والمعاصر ما أثبت أن مسألة الشرعية الديمقراطية ليست بالبساطة التي يتصورها الكثيرون، خاصة بعد أحداث ما يسمى الربيع العربي.

أ.د. عبدالإله بلقزيز
لم يشأ المحاضر أن يستخدم معوله الفكري منذ البداية في هدم القصور التي بناها أصحاب الأحلام الوردية في مناماتهم الإعلامية، فتحدث في البداية عن شروط الديمقراطية ومبادئها والأسس التي تقوم عليها، وقدم مجموعة من الأمثلة التي تدعم صحة أقواله. بعد ذلك أخذ في تفكيك الحال المزرية التي وصلنا إليها وشرح ببساطة متناهية سبب يقينه بأننا لا نزال بعيدين عن التطبيق الحقيقي للديمقراطية: لا بالروح وحتى بالشكل.

من أبرز النقاط التي أوردها بلقزيز في محاضرته ووجدتني أوافقه فيها تماما: صناديق الاقتراع لا تأتي بالديمقراطية؛ الديمقراطية هي التي تأتي بصناديق الاقتراع. ما يجري الآن في مصر ليس ديمقراطية حقيقية، بل دكتاتورية شعبية تدعمها صناديق الاقتراع. وسوف يبقى الوضع كذلك ما لم يتوافق الجميع على عقد اجتماعي حقيقي يخرجنا من ذهنية "معركة صناديق الاقتراع".


عندما يفوز حزب يميني في أوروبا فإن الأحزاب اليسارية لا تخشى على مصالحها، وعندما يفوز اليساريون لا يخشى اليمينيون شيئا. أما في بلادنا، فإن العلمانيين ترتعد فرائصهم إذا فاز الإسلاميون، والإسلاميون ترتعد فرائصهم إذا فاز العلمانيون. ما يجري في بلادنا هو تباغض وتحاقد بين مجموعات متناحرة لا يجمع بينها سوى روابط فرعية عشائرية أو جهوية أو طائفية، أما الانتماء الوطني فغائب أو مغيب.

المشكلة لا تكمن في المجموعات الحاكمة فحسب بل أيضاً في المعارضة نفسها لأن كلا الطرفين لا يملكان تصوراً ديمقراطياً حقيقياً، ولم يسبق على مدار التاريخ أن استجدى شعب من الشعوب احتلالاً أجنبياً لكي يمنحه الديمقراطية.

الديمقراطية بحاجة إلى تطورات تاريخية واجتماعية واقتصادية شاملة تسبقها، وهي تبدأ من البيت والمدرسة قبل البرلمان والمجتمع المدني.

المجتمع المدني في الدول العربية كذبة كبرى، لأنه ينبغي أن يكون أحد إفرازات الديمقراطية لا أن يسبقها. العاملون في المجتمع المدني يشغلون أنفسهم بقضايا فرعية مثل حقوق الشواذ جنسياً في محاولة لتقليد ما يجري في المجتمعات المدنية الغربية.

نحن اليوم لم نعد نقرأ التاريخ، وليس لنا من مرجع سوى تحليلات الصحفيين من الدرجة الثانية فما دون ومذيعي النشرات الإخبارية. هؤلاء مراجعنا وهؤلاء هم الذين يقررون أن البلد الفلاني أصبح ديمقراطياً أو أمسى دكتاتورياً، وهذا الوضع المثير للأسى آخذ للأسف في الاستفحال كأن ما فينا لا يكفينا!

كان بلقزيز صريحاً في دعوته إلى الفصل بين "ما هو ديني وما هو سياسي" في إطار الديمقراطية، ولم يخف امتعاضه من الحركات الدينية التي استخدمت مفردات الدين وجاذبيته الكبيرة للتحايل على الناس بغرض كسب أصواتهم. ولئن كان بلقزيز يرى أن هذا عيب في الحركات الدينية نفسها، فإنني أعتقد أن هذا خلل هيكلي في بنية الديمقراطية ذاتها. الديمقراطية، في رأيي، ليست محصنة من الانهيار بل إنها قادرة على هدم نفسها بنفسها إذا تحولت غالبية الشعب إلى معارضين للديمقراطية، ولم لا؟ أما الحديث عن فصل الدين عن السياسة فهو قصور فكري خطير سببه العجز عن إدراك الاختلاف بين الإسلام وغيره من الأديان، وتبني نظرة نسبية يدعي صاحبها بأنه يؤمن بالدين ويحترمه لكنه في الوقت نفسه يعتبره مجرد دين مثل سائر الأديان، رغم أن هذا الدين يعلو على ما سواه ولا يدانيه دين. وسبحان ربي، كأنما كتب على من يسمون أنفسهم بالمثقفين أن يدوروا في حلقة مفرغة طيلة حياتهم ما داموا يصرون على تجاهل هذه الحقيقة الناصعة.

أما القول بسطوة الإعلام على حساب الفكر فهو، برأيي، صواب لا جدال فيه. وما زلت غير مدرك لكيفية تحول الصحفي ناقل الأخبار أو المذيع قارئها إلى محللين سياسيين يتحدث الواحد منهم في السياسة كأنما خبرها ردحاً من الزمن، وتراه يجادل ويناقش كأنما أوتي من العلم مفاتحه وهو من أجهل الجاهلين.

ومثل هذا مقولة أحد المعترضين على كلام بلقزيز عندما نعته بأنه لا يعبأ بدماء "الشهداء" وأعجبني في المحاضر أنه لم يكلف نفسه الرد على ذاك المعترض. هؤلاء الشهداء لم يكونوا ليستشهدوا لولا أن الإعلام أراد لهم ذلك. الشهادة مفهوم أخروي قبل أن يكون دنيوياً، وهؤلاء لا أظنهم ماتوا والآخرة أمام عيونهم بل هي الدنيا وحب الدنيا والموت من أجل الحرية في الدنيا والديمقراطية في الدنيا والأخوة في الدنيا. لا يملك إنسان أن يقول إن من ماتوا في أحداث ما يسمى الربيع العربي مصيرهم إلى جهنم، تماماً كما لا يملك إنسان أن يزعم أن مصيرهم إلى الجنة، ولا أرى وصفهم بالشهداء إلى في سياق هذا الزعم الأخير.

لقد قدم عبدالإله بلقزيز محاضرة قيمة للغاية تدل على سعة اطلاعه وعمق تفكيره وحسن تدبيره إذ أحسن الرد على المنتقدين والمعترضين، وختم محاضرته بدفاع عن دور المثقف ورسالته وأنهاها بالقول: قل كلمتك وامش.


ليست هناك تعليقات: