عمل مؤلف الكتاب سفيرا لبريطانيا لدى المملكة الأردنية الهاشمية خلال الفترة بين عامي 1956 و1960، وهي فترة أقل ما يمكن أن يقال عنها هو إنها كانت فترة صعبة وعصيبة، ليس على الأردن وحده بل على المنطقة بأسرها. ومن هنا تكمن أهمية الكتاب. فالمؤلف كان بحكم عمله شاهدا على أحداث في غاية الجسامة مثل تبعات حرب السويس، وتشكيل وسقوط حكومة سليمان النابلسي (الحكومة الحزبية الوحيدة في تاريخ الأردن)، والانقلاب على الملك حسين عام 1957، والوحدة القصيرة بين الأردن والعراق تحت الحكم الهاشمي، ثم سقوط حكم الهاشميين في العراق وأخيراً اغتيال رئيس الوزراء هزاع المجالي في مكتبه بعمان.
الأسلوب الأدبي للمؤلف واضح في كل صفحة من الكتاب بل في كل فقرة منه. ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن السير تشارلز جونستون، المولود في لندن عام 1912 والمتوفى في المدينة نفسها عام 1986، شاعر ومترجم لديه العديد من المصنفات من أبرزها ترجمة رواية "يفغيني أونيغين" للكاتب الروسي الشهير ألكساندر بوشكين. وربما استفاد جونستون في ترجمته هذه، وغيرها، من كونه قد تزوج من أميرة روسية سابقة ساعدته على تعلم اللغة الروسية وإتقانها.
والجدير ذكره أن الطبعة التي حصلت عليها من الكتاب هي من منشورات وزارة الثقافة الأردنية، وقد نوه المترجم د. فهمي شما في مقدمة الكتاب بأنه حصل من المؤلف رسمياً على "حق الترجمة والنشر بالتصرف المعقول" على حد تعبيره، وأعتقد أن من يقرأ الكتاب لن يجد صعوبة كبيرة في الكشف عن مواضع هذا "التصرف المعقول". وعلى أية حال فإن الجهد الذي بذله المترجم لا يخفى على منصف، وهو جهد يستحق عليه الشكر والثناء.
يقع الكتاب في خمسة وعشرين فصلاً موزعة على ثلاثة فصول رئيسية. حمل الفصل الأول من الكتاب عنوان "السويس"، وقد أفرده الكاتب لسرد أحداث تكليفه بمنصبه سفيراً لدى الأردن وسفره إلى عمان واستقراره فيها. وقد حرص المؤلف على تقديم نبذة مختصرة عن الأردن وأوضاعه العامة، واتخذ من ذلك مدخلاً للحديث عن إنهاء المعاهدة الأردنية البريطانية، والذي كان تحصيل حاصل بعد قرار الملك حسين في مطلع العام 1956 بتعريب الجيش وإقصاء غلوب باشا عن قيادته. وقد أسهب جوستون في توضيح ملابسات إنهاء المعاهدة، ووصف بشكل دقيق الجهود التي بذلها، ومعه الأردنيون، في فصل عملية إنهاء المعاهدة عن الماكنة الدعائية التي كان يسيطر عليها عبدالناصر في مصر والتي كانت تدعو لفك الارتباط مع كل ما هو غربي، حيث لم يشأ الملك حسين أن يسمح لأحد باستغلال إنهاء المعاهدة كما لو كان جنوحاً إلى معسكر عبدالناصر وسائر القوميين العرب.
حمل الفصل الثاني من الكتاب عنوان "بغداد"، وقد خصصه المؤلف للحديث عن الأحداث التي تلت استقالة سليمان النابلسي وكيفية تعامل الملك حسين وحكومة سمير الرفاعي مع محاولة انقلاب فاشلة قادها عدد من ضباط الجيش، ولو قدر لها النجاح لتغير تاريخ المنطقة بأسرها. وكان واضحاً أن للحكومة السورية آنذاك دور كبير في تلك المحاولة، وكذلك للحكومة المصرية بقيادة عبدالناصر. وقد أبدع جونستون في وصف الأجواء التي رافقت المحاولة الانقلابية وتأثيرها على الحياة اليومية لسكان عمان في ذلك الوقت. وفي مكان آخر من الكتاب ألمح جونستون إلى أنه قدم نصيحة غير رسمية للملك بالامتناع عن إعدام معارضيه، ولا ندري إن كانت السياسة المتسامحة التي تبناها الملك الراحل واشتهر بها قد تأثرت بنصيحة المؤلف أم لا.
أما الوحدة بين الأردن والعراق فقد تحدث عنها المؤلف بإسهاب أيضاً، وتحدث عن عدد من التفاصيل التي اشتملت عليها المعاهدة بين البلدين، والتنازلات التي قدمها الملك حسين لقريبه الملك فيصل الثاني في سبيل تحقيق الوحدة التي لم تدم طويلا، وانتهت نهاية كارثية. وقد أكد جونستون أن الحكومة البريطانية سارعت إلى إرسال قوات جوية وبحرية إلى الأردن بعد الانقلاب الذي وقع في بغداد وسقوط الحكم الهاشمي في العراق، ورأى أن الدعم البريطاني والأمريكي للأردن كان سببا مباشرا في بقائه على قيد الحياة.
وحمل الفصل الثالث من الكتاب عنوان "عمان"، وفيه يلتفت الكاتب إلى شؤون الحياة اليومية التي كان يعيشها بوصفه سفيراً لبريطانيا في العاصمة الأردنية. وقد تحدث في هذا الفصل عن استقالة سمير الرفاعي وتعيين هزاع المجالي خلفاً له، ووصف زيارة شاه إيران إلى عمان والحفاوة التي استقبل بها ثم زيارة ملك المغرب محمد الخامس إلى عمان. وقد أفرد الكاتب صفحات عديدة من الكتاب للحديث عن اغتيال هزاع المجالي وقدم شهادته عن تلك الحادثة، وعزاها بالدرجة الأولى إلى "المبالغة في الثقة بالناس" التي كان يتصف بها هزاع.
ولم يخف جوسنتون، على امتداد صفحات الكتاب، إعجابه بشخصية الملك حسين ودماثة أخلاقه وطيب تعامله رغم صغر سنه وقلة خبرته في تلك الأيام (لم يكن يتجاوز عمر الملك 21 عاماً عندما التقى به السفير لأول مرة). كما حرص على تقديم وصف دقيق لعدد من الشخصيات التي كانت تهيمن على المشهد السياسي الأردني آنذاك. فسليمان النابلسي كان "يفتقر للشخصية القوية"، وكان "يتقن اللغة الإنجليزية مع بعض التكلف"، وعلي أبونوار كان "يتظاهر بالسذاجة" و"يقلد عبدالناصر" في طريقة المصافحة، و"صاحب مزاج متقلب". أما عبدالله الريماوي فكان "صغير الجسم وله عينان حادتان...وكانت له صفة التعصب". وكان سمير الرفاعي "سياسياً حتى أخمص قدميه، وبكل ما في الكلمة من معنى".
ومما يلفت النظر في الكتاب تجنب المؤلف الحديث عن إسرائيل إلا فيما ندر، وتجاهله التام لحقائق الوضع القائم آنذاك وتركيزه على سوريا ومصر باعتبارهما أكبر خطر يهدد أمن الأردن واستقراره. وهو يقول في الفقرة الأخيرة من الكتاب: "فإن إجراء الحكومة البريطانية في مساندة استقلال الأردن قد أثبت بوضوح أنه أدى لتأجيل الصدام بين إسرائيل والعرب". ومن النقاط اللافتة أيضاً أن نظرة الغرب للديمقراطية في بلادهم ليست كنظرتهم إليها في بلادنا، وهذه العبارة تصدق على حالنا في الوقت الحاضر وفي الماضي أيضاً حيث يقول جونستون: "إن الديمقراطية البرلمانية لا يمكن أن تعمل بنجاح لا في العالم العربي ولا في غيره إلا إذا جاءت بزعماء يفرضون احترامهم" وهذا كلام صحيح من الناحية النظرية، لكن أين هو في الواقع؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق