قليلة هي الأفلام التي تناولت موضوع التوحد والمصابين بهذا الاضطراب، ونادرة هي الأفلام التي عالجت الموضوع بشيء من الحرص والحكمة. وهذا الفيلم – فيما أعلم – هو الأول من نوعه من حيث تناوله لموضوع التوحد بهذه الصورة الموضوعية المباشرة. وحتى لو لم يكن الأول في الترتيب الزمني فهو بالتأكيد الأول في الترتيب الفني و"المهني" إن جاز التعبير. وللقارئ أن يتصور مدى وعي الناس – عامتهم وخاصتهم – باضطراب التوحد قبل ربع قرن من الآن حتى يدرك مدى ريادة هذا الفيلم وجرأته في الطرح وأسبقيته في هذا المضمار.
حقق الفيلم نجاحا كبيرا في عام 1988، وفاز بأربع جوائز أوسكار من أصل ثمان كان مرشحا للفوز بها، وجمعت شبابيك التذاكر حول العالم من مشاهديه أكثر من 354 مليون دولار، ونال رضا الكثير من النقاد ونسبة كبيرة ممن شاهدوه. والحق أن الفيلم مصنوع بإتقان كبير من الناحية الفنية البحتة، وكان أداء البطلين فيه (دستن هوفمان وتوم كروز) مميزا، ولعله من أفضل الأدوار التي قام بها الاثنان في مسيرتهما السينمائية الحافلة.
لكن يحق لمن قدر له، مثل كاتب هذه السطور، أن يعمل عن كثب مع المصابين بالتوحد وأسرهم أن يبدي رأيه فيما شاهد في هذا الفيلم من تجسيد لشخصية امرئ مصاب بالتوحد، بل بحالة خاصة من هذا الاضطراب لا يمكن بحال تعميمها على سائر التوحديين؛ وهذه هي الجناية الأولى التي ارتكبها "رجل المطر" والقائمون عليه عن غير قصد في الغالب: الوقوع في فخ التعميم وإيقاع المشاهدين فيه. ولا زلت لغاية الآن ألقى ردة الفعل المتعجبة نفسها عندما أخبر الناس بأن التوحديين ليسوا جميعا من العباقرة أو ممن يملكون "مواهب خاصة"، ولا حتى نصف التوحديين ولا أقل من ذلك بكثير. وهذا ينطبق على النطق والتخاطب أيضا: فالتوحديون نصفهم لا ينطقون أصلا، والنصف الآخر ممن ينطقون لا يتواصل السواد الأعظم منهم مع من حولهم كما كان يفعل ريموند/ دستن هوفمان مع شقيقه وصديقته على الإطلاق. ولو كانوا يتواصلون بهذه الصورة ويصنعون الروابط مع الآخرين بهذه السرعة لما كان في التعامل معهم من مشكلة قط!
ومن الجنايات الأخرى التي ارتكبها الفيلم عن غير قصد فيما أرى، ولعل السبب هو الجهل لا غير، إهماله الكامل لشخصية (فيرن) الذي قضى السنوات الطوال مع المتوحد ريموند ثم كان جزاؤه الإقصاء المتعمد من الشاشة والحوار وتحويله إلى شخصية هامشية. ولم يشدني في الفيلم مشهد كما شدني مشهد حديث فيرن عن ريموند بأنه يتجاهله دائما ولم يسمح له بلمسه مطلقا. عندما نطق فيرن بهذه الكلمات كدت أن أهتف: صحيح! هذا هو الواقع! لقد عبر فيرن هذا عن الصعوبة الكبرى التي يواجهها العاملون مع التوحد (وأنا هنا أتحدث بالنيابة عنهم لأنني كنت واحدا منهم طيلة سنوات أربع)، فما أصعب أن يقضي المرء يومه مع شخص أو أشخاص لا يبادلونه أبسط الانفعالات، ولا حتى مجرد النظر في العين أو "التواصل البصري" كما كنا ندعوه. وقد أعجبني أن هوفمان كان حريصا على ألا يدع ريموند ينظر في عين مخاطبيه...في أغلب الحالات.
ولا يعلم أغلب الناس، ومن بينهم القائمون على "رجل المطر" فيما يبدو، أن المصاب بالتوحد يحتاج إلى الروتين الثابت الرتيب حاجته إلى الماء والهواء. وإذا أردت أن ترى توحديا يتصرف كمن يتخبط في الظلام فلا تخبره بما سيحدث بعد قليل، ولا تضع له برنامجا يوميا يسير عليه كل يوم، وتنقل به من مكان إلى آخر دون إخباره عن وجهتك. الغريب أن هذا بالضبط هو ما فعله تشارلي بريموند لكن ريموند ظل ثابت الجنان هادئا صامتا معظم الوقت. صحيح أن إصراره على بعض الجزئيات الهامة (مثل مواعيد الطعام ومحتويات كل وجبة وإطفاء الأنوار عند الساعة الحادية عشرة وغير ذلك) كان واضحا، لكن ما لم يكن مقنعا هو ردة فعل ريموند عندما كان شقيقه يتجاهل هذه الجزئيات أو يتعمد كسرها. إذ ليس صحيحا على الإطلاق أن المصاب بالتوحد يتكيف مع التغيير بهذه السرعة وهذه المرونة، وإلا لخرج من دائرة التوحد بكل بساطة.
ليس مطلوبا بالطبع من مخرج الفيلم وممثليه أن يحيطوا بكل التفاصيل حول خصائص المصابين بالتوحد ومميزاتهم، ولا أظن أن الموضوع بأسره كان محل اهتمام العلماء والتربويين في عام 1988، حيث رأينا الطبيب النفسي في تلك البلدة الصغيرة يقول إنه "قرأ شيئا ما" عن حالة ريموند كأن الأمر ثقافة عامة لا أكثر. وبالرغم مما سبق، فقد أذهلتني في كثير من المواضع قدرة الممثل "هوفمان" ومن يرشده في أداء دوره على الإتيان بردود فعل لا أراها إلا "متقدمة" قبل أربعة وعشرين عاما من الآن. على سبيل المثال، عندما سأل تشارلي ريموند عن كيفية قدرته على حل المسائل الحسابية وحفظ الأرقام الهاتفية أجاب ريموند: "إنني أراها"؛ وهذه برأيي جملة مركزية في الفيلم لأن التوحديين، نسبة كبيرة منهم، يرون الأفكار على شكل صور يشاهدونها في أدمغتهم، ولا يعالجون الأفكار مجردة كما يفعل سائر الناس. وهذا يتكرر بعد انتهاء أحداث الفيلم وظهور أسماء العاملين فيه حيث تظهر إلى جانب الأسماء صور صغيرة لفتت نظري عندما رأيتها، وبعد البحث وجدت أنها هي ذات الصور التي كان يلتقطها ريموند بين الفينة والأخرى بآلة التصوير التي ظل حريصا على حملها. فالصور مكون أساسي في حياة معظم المصابين بالتوحد، وقليل من الناس للأسف يعرفون هذه الحقيقة أو يأخذونها على محمل الجد، وقد عاينت هذه الحقيقة بنفسي عندما عملت في هذا المجال.
بقي أن أذكر حقيقة أخيرة سمعتها من سيدة كانت تدير مركزا للتوحد عملت فيه قبل سبع سنوات، وكان ابنها مصابا بالتوحد. قالت السيدة إنها بعدما شاهدت الفيلم سافرت إلى الولايات المتحدة وأخذت تتبع الشخصية الحقيقية التي بنى عليها كاتب الفيلم شخصية "ريموند"، وكان دافعها في ذلك أن ابنها مصاب بالتوحد ولكنه لا يشبه ريموند في شيء! وبعد بحث طويل توصلت الأم إلى أن شخصية "ريموند" تمثل حالة من التوحد لا يصاب بها سوى واحد بالألف من المصابين بالتوحد، والذين هم في أحسن الأحوال (أو أسوئها) لا يزيدون على 3% من أفراد أي مجتمع. وهذا يعني أن العثور على أمثال ريموند بين المصابين بالتوحد صعب للغاية فكيف بمن يتوقع العثور عليه في مجتمع بأكمله؟
خلاصة الكلام أن "رجل المطر" قدم خدمة هائلة للمصابين بالتوحد والعاملين في هذا المجال والباحثين على حد سواء، وهذه الخدمة التي قدمها تغفر له بكل تأكيد الزلات التي وقع فيها والمفاهيم الخاطئة التي نشرها عن غير قصد – كما أسلفت – بين المشاهدين. ويمكن القول إن عالم التوحد بأكمله قد اختلف كثيرا بعد "رجل المطر" عما كان عليه قبل "رجل المطر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق