في إسقاط نادر لهموم العصر على المسرح الجاد، استطاع المخرج الشاب كاشف سميح في مسرحيته الأخيرة "المهزلة" أن يجسد التناقض المزمن الذي بات عنوانا للمرحلة الحالية من تاريخنا، ذاك التناقض الذي أريقت في سبيله دماء، وصدرت باسمه أحكام بالخيانة تارة وبالكفر تارة أخرى. إنه التناقض بين الحرب والسلم، بين المقاومة والتفاوض.
تصور المسرحية حال مجموعة من (الثوار) وقد أنهتكهم المعارك وأثخنتهم بجراحها، ولكنهم رغم ذلك يتمسكون بالثورة ويرحبون بالموت الذي هو طريق الحياة، ويتبنون شعار (نكون أو لا نكون، تلك هي المقاومة) وهو مستعار من عبارة هملت في المسرحية الشهيرة لشكسبير.
ولئن كانت المسرحية قد جنحت إلى توظيف الرمز في إيصال كثير من الأفكار للمتلقي، فإن القدرة على المزاوجة بين الشيء ونقيضه كانت السمة الغالبة عليها، خاصة عندما رأينا أحد (المقاومين) يتمرد على رفاقه ويتنكر لمبادئ (الثورة) التي نشأ في كنفها، بل ونجده يدعوهم لاتباعه فيما ذهب إليه قبل أن يواجهوه بالرفض القاطع.
وفي المسرحية نموذج للحاكم الفاسد الذي ينغمس في الملذات بينما شعبه يعاني الويلات، ونجد هذا الحاكم يشن حملة هوجاء على رموز المقاومة ويدعوهم لتجاوز مرحل تاريخية عفا عليها الزمن، وينصحهم بأن (ليس القوي من يكسب الحرب، بل الضعيف هو من يخسر السلام) ويدافع عن هذا المبدأ بضراوة، غير عابئ بآلام شعبه ولا بجرح رموز الثورة..ونجده في نهاية المسرحية يقول الكلمة الأخيرة ويسدل الستار على الثورة والثوار.
ولعل المغزى وراء إنتاج مسرحية كهذه في وقت كهذا هو الدعوة إلى التعقل وتحكيم العقل والمنطق من خلال تجاوز التضاد الظاهري بين المقاومة والتفاوض. فلا المقاومة مجدية بغير تفاوض ولا التفاوض مجد بغير مقاومة. كما تمثل هذه المسرحية نموذجا طيبا للمسرح الذي نريد، بعيدا عن العبث والغوغاء المتسترين بستار الحداثة وما بعد الحداثة، كما نرجو أن تكون بداية لأن يستعيد المسرح الجاد دوره في مواكبة العصر وهمومه وقضاياه، بعد أن استطاع المسرح الهزلي والتجاري أن يسحب البساط من تحته بكل جدارة.
8/8/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق