جون بولتون*
بلومبيرغ
يقال إن كيسي ستنغل** سأل مرة، بعدما تولى إدارة الفريق سيء الطالع نيويورك ميتس، “ألا يوجد هنا أحد يتقن اللعبة؟” هذا السؤال ذاته ينطبق إلى حد كبير على التدخل العسكري الأمريكي-الأطلسي في ليبيا، والذي استغرق لغاية الآن أربعة شهور مرهقة.
وبقدر ما هو من المنطقي أن يعمل الحلفاء على إزالة المخاطر التي ينطوي عليها تهديد معمر القذافي بالعودة لمساندة الإرهاب الدولي، فإننا لا نجد حتى الآن إلا القليل من الإيجابيات عند الحديث عن القيادة السياسية للعملية.
ففي الأسبوع الماضي اعترفت السلطات الفرنسية بإنزال “أسلحة خفيفة” (تتضمن رشاشات آلية وقاذفات صواريخ) لقوات الثوار في غرب ليبيا. وسارع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى انتقاد هذه الخطوة، محتجا بأنها تنتهك القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي في مارس الماضي والذي قضى بفرض حظر للأسلحة على ليبيا.
وكان رد فرنسا على ذلك أنها قامت بتزويد الثوار بالأسلحة بناء على قرار لاحق أصدره مجلس الأمن يسمح باستخدام القوة العسكرية لحماية المدنيين وفق مبدأ “المسؤولية عن الحماية”. ووقفت الصين، التي كانت قد امتنعت مع روسيا عن التصويت لصالح ذلك القرار، إلى جانب موسكو. أما بريطانيا فقد كشفت عن أنها تعمل على تزويد الثوار ببزات ودروع عسكرية، وهي التي كانت قد اعترفت من قبل بإرسال مستشارين عسكريين لليبيا لمساعدتهم.
تسليح الإرهابيين
وفي تطور لاحق شهده الأسبوع الماضي، عبر مسؤولون إسبان عن مخاوفهم من وصول أسلحة القوات الموالية للقذافي إلى أيدي مسلحي ما يعرف باسم القاعدة في المغرب الإسلامي. فإما أن القذافي يعمل على نقل الأسلحة بصورة مباشرة لمساعدة هذا التنظيم على شن هجمات إرهابية ضد الغرب، أو أن أفراد قواته المتفككة أخذوا يبيعون أسلحتهم لتوفير المال الكافي لمتطلبات المعيشة بعد رحيل القذافي.
وفي الحالتين فإن قدرات تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي آخذة في التعاظم نظرا لعجز الولايات المتحدة ومنظمة حلف شمال الأطلسي عن الوصول بالصراع في ليبيا إلى ما كنا نسميه في الماضي “النصر” في تلك الأيام الأكثر وضوحا والأقل تعقيدا التي سبقت وصول الرئيس باراك أوباما إلى السلطة.
هذه الإشارات الحديثة التي تدل على ضعف انسجام التدخل في ليبيا تؤكد على مدى فداحة المخاطر المرتبطة بالفشل هناك. إذ على الرغم من الجهود المبذولة لتصحيح العلاقات مع روسيا، وهي جهود كانت في كثير من الأحيان أقل من مرضية، ما تزال موسكو مستاءة من السياسة الأمريكية. والواقع أن التصريحات اللاذعة الأخيرة التي أطلقها لافروف حول العمليات في ليبيا تشير إلى أن سياسة إدارة أوباما إنما تجني ما ينبغي أن تجلبه التسوية: مطالب بالمزيد من التسوية. وبالرغم من أن بكين لم تصل بعد إلى الدرجة نفسها من الانتقاد العلني، فلا شك في أن الصينيين يدركون مدى الضعف والتردد الأمريكيين.
مناورة محدودة
لقد حدد أوباما مقدار هذه المناورة منذ البداية وجعل مهمة القوات العسكرية محصورة في حماية المدنيين. وقد اعترف بأنه فضل أن ينتظر حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يتخذ قرارا بالتحرك بينما كانت معاقل الثوار تتعرض لهجمات وشيكة، وأعلن على الملأ أنه لن يكون للأمريكيين “موطئ قدم على الأرض”، وأصر على الحصول على موافقة مسبقة من مجلس الأمن الدولي والجامعة العربية.
وفي وقت لاحق، وبعد أن تزعمت القوات الأمريكية ما سمي بـ “العمليات العسكرية النشطة”، عادت إدارة أوباما وأوقفت على نحو مفاجئ معظم الضربات الموجهة أمريكيا، وإن لم تتوقف عن توفير الدعم اللوجستي والعملي والاستخباري للعمليات الجوية التي كانت تنفذها طائرات النيتو. ومن خلال تظاهرنا بأننا تخلينا عن الزعامة لشركائنا في الحلف، تصرفنا كأن النيتو لم يكن منذ لحظة تأسيسه خاضعا للزعامة والهيمنة الأمريكية، وقد أوقع هذا التصرف حلفاءنا في حيرة عظيمة.
في يوم 18 مارس أعلن أوباما صراحة أنه يريد أن تتم إزاحة القذافي عن السلطة، لكنه أكد في الوقت نفسه أنه لن يستخدم القوة لتحقيق ذلك: "نحن لن نستخدم قوة تتجاوز الهدف الذي حددناه لأنفسنا، وهو حماية المدنيين في ليبيا. هذا هو مبدأ “المسؤولية عن الحماية”، والذي يبرر استخدام القوة في الأغراض الإنسانية التي تتحدد وفقا للذين يملكون الأسلحة.
قنابل شاردة
بعد ذلك، أدت غارات النيتو إلى مقتل أحد أبناء القذافي وثلاثة من أحفاده، ويدعي النظام أن أعدادا كبيرة من المدنيين لقوا حتفهم أيضا. كما اعترف النيتو أكثر من مرة باستهداف قوافل تابعة للثوار.
حتى التدخل ذو الصبغة الإنسانية يمكن أن يؤدي إلى وقوع المآسي.
هذا التباين الكبير بين أهدافنا المعلنة، فضلا عن القيود الكبيرة المفروضة على قوات النيتو، وعدم استعداد أوباما لعمل ما هو ضروري – أي إزاحة القذافي -، كل هذا يعني أن نهاية العمليات في ليبيا ما تزال بعيدة.
وهنا يتكشف البعد الأخلاقي لمفهوم “المسؤولية عن الحماية”. فالخلاف بين روسيا وفرنسا حول مفردات قرارات مجلس الأمن ليس مجرد مراوغة تشريعية لتفسير قرار أممي يشوبه الكثير من الغموض، وإنما يعكس خلافا حقيقيا حول ماهية التصرف المناسب والضروري، وأيضا وبما لا يقل أهمية: من الذي يصرح بهذا التصرف ومن الذي يتحكم به.
انتهاك حظر الأسلحة
ولسوء الحظ فإن تفسير موسكو هو الأقرب للصواب؛ فالقرار الذي سمح باستخدام القوة لحماية المدنيين أعاد التأكيد على استمرار حظر الأسلحة، وهذا يعني أن على الحكومات أن تلتزم بكلا المادتين لا أن تختار منهما ما تشاء. إن الأخذ بالتفسير الفرنسي يتطلب القول إن القرارين مبهمان أو متناقضان داخليا، مع أن هذه لن تكون سابقة في تاريخ مجلس الأمن.
إن الدرس الذي ستتعلمه روسيا والصين هو أن فهم أوباما لمفهوم القوة الضاربة والفولاذ البارد ليس دقيقا في أحسن الأحوال، وأن إدارته تفضل الخطب البليغة على اتخاذ الإجراءات العملية. سوف تعتبر هاتان الدولتان في أحداث ليبيا دليلا إضافيا على ضعف الإرادة الأمريكية وتراجع قدرتنا على التصرف بحزم في المناطق البعيدة.
أما الدرس الذي ينبغي أن تتعلمه الولايات المتحدة فهو أنها يجب ألا تطلب الإذن دائما من الآخرين عندما تسعى وراء مصالحها، بل يمكنها أن تطلب منهم الصفح لاحقا إذا استدعى الأمر ذلك. لكن من غير المحتمل أن يتوصل أوباما إلى هذا الاستنتاج. لقد أدى غياب الزعامة الأمريكية عن قضية ليبيا إلى المأزق الحالي الذي يشهده الصعيدان الدبلوماسي والعسكري. ومع علمنا اليقيني بأن النيتو سينتصر حتما، فإننا نتألم لأن رئيسنا هو السبب في الكثير من المشاكل التي نواجهها الآن.
* جون بولتون: سياسي أمريكي كان سفيرا للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في عهد إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن.
** كيسي ستنغل (1890-1975): أحد أبرز مشاهير رياضة البيسبول في الولايات المتحدة. كان لقبه "البروفيسور العجوز" (المترجم)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق