الخميس، يوليو 28، 2011

أوروبا بحاجة للتخلص من تنافرها المعرفي



سكوت ماينرد*
بلومبيرغ


في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، أجرى عالم أمريكي متخصص في علم النفس الاجتماعي يدعى ليون فستنغر تجربة تمثل صورة قريبة من المتاعب التي تواجهها أوروبا في الوقت الحالي.

فقد التقى هذا العالم بجماعة دينية يؤمن أعضاؤها بأن المخلوقات الفضائية قادمة لإنقاذهم من طوفان هائل سوف يدمر كوكب الأرض. وقد استطاع فيتنغر أن يقنعهم بأنه انضم إليهم ضمن مسعاه لدراسة نظرية أسماها "التنافر المعرفي"، وهو مصطلح يشير إلى التوتر النفسي الحاصل عندما يجد الأفراد أمامهم أدلة مثبتة تتناقض مع افتراضاتهم أو معتقداتهم.

وعندما حل يوم القيامة الموعود وانقضى دون أن تسقط قطرة ماء ودون أن تعبر الأجواء أي أطباق طائرة، راقب فستنغر كيفية استجابة أعضاء الجماعة لصدمة الواقع. وبما أنهم كانوا قد بذلوا الكثير في سبيل حشد الدعم لوجهة نظرهم، فإن التراجع كان ببساطة أمرا مكلفا. وعوضا عن ذلك، نقل قادة الجماعة نبوءتهم إلى تاريخ آخر في المستقبل، وشجعوا الأتباع على المزيد من الالتزام وعلى "هداية" غير المؤمنين بالنبوءة. وقد وجد بعض الأعضاء في ذلك وسيلة للتخفيف من ألم خيبة الأمل، لكن النتيجة الحتمية هي أن الواقع هو الذي ينتصر.

وقد عقب فستنغر بالقول:" ربما يحاول هؤلاء المؤمنون إخفاء الحقيقة، ولو عن أنفسهم، لكنهم يعلمون أن النبوءة كانت خاطئة وأن جميع استعداداتهم كانت عبثا في عبث. لا يمكن إزالة التنافر بالكامل بمجرد إنكار التناقض أو وضعه في إطار منطقي".


علم النفس السياسي
هذه القصة التي تحمل في طياتها قدرا من التناقض الظاهري تتشابه بصورة كبيرة مع تفسير علم النفس السياسي لأزمة الديون الأوروبية. فقد التزم الزعماء السياسيون بمسار خطط الإنقاذ وبرامج التقشف على الرغم من ضخامة تكاليفها. وها هي الاتفاقية التي توصل إليها المجلس الأوروبي في بروكسل تتخذ المنحى نفسه: سيولة إضافية بالمليارات، دون أي حلول هيكلية ذات معنى.

من المفترض أن يكون قد اتضح الآن بما لا يدع مجالا للشك أن السيولة ليست هي الحل. ومن الواضح أيضا أن التقشف ليس هو العلاج. في كل يوم يتراكم المزيد من البيانات المحبطة في المحيط الأوروبي؛ فقد تبين أن الزمن هو الخصم، وليس مجرد حليف يمكن أن يشتريه المال. ولا شك في أن الزمن لا يتكفل بشفاء كل الجروح، والبيانات على ذلك خير شاهد.

لذا نجد في العام 2011 أن اليونان تنأى بالمزيد من أعباء الديون، وعجز الموازنة، وتكاليف التمويل، ونسب البطالة، بينما ناتجها الاقتصادي وعائداتها الضريبية في تراجع مستمر. ومن المحتمل أن تسير أيرلندا والبرتغال على خطى اليونان وتحتاجا إلى المزيد من الدعم. ومما يزيد من تعقيد الأمور أن أسعار الفائدة تصعد باستمرار في إيطاليا وإسبانيا، مما يلقي بالمزيد من الضغط على نموهما الاقتصادي الضعيف ونظامهما المصرفي الهش. ومن المتوقع بحلول الربع الرابع من هذا العام أن يكون الانكماش الاقتصادي قد أتى على المحيط الأوروبي بأكمله.

التقشف لا يجدي نفعا
باختصار، تبرهن البيانات على أن التقشف دون تخفيض سعر العملة لا يجدي نفعا. لقد فشل الأوروبيون في تجنب الأزمة بل استطاعوا أن يؤجلوها لبعض الوقت. وبالرغم من ذلك فإن صانعي القرار يصرون على الاكتفاء بالانتظار والأمل في مستقبل أفضل، وقد غفلوا فيما يبدو عن الحاجة إلى إجراء إصلاحات هيكلية جذرية.

ماذا يتعين على القادة الأوروبيين أن يفعلوا؟ كما قال شرلوك هولمز: "عندما تسقط جميع الاحتمالات فإن ما يبقى، مهما كان غير منطقي، لا بد أن يكون هو الحقيقة". وسواء أعترفوا بذلك أم لم يعترفوا، فإن الحقيقة التي تواجه صانعي القرار في أوروبا هي أن بقاء منطقة اليورو يتطلب حتما درجة أكبر من الوحدة المالية. وقد اعترف وزير المالية الألماني ولفغانغ شويبله مؤخرا بأن "الدولة القومية باعتبارها المستوى الوحيد لصناعة القرار قد استنزفت فعاليتها"، واعترف أيضا "عندما أنشأنا هذه الوحدة النقدية، كانت ألمانيا ترغب في وحدة سياسية أيضا".

تحديد النقاش
بالرغم من أن "الوحدة السياسية" مصطلح غامض، فقد عمل رئيس البنك المركزي الأوروبي جان-كلود تريشيه على تحديد النقاش. فقد سأل ببلاغة في خطاب ألقاه مؤخرا:" هل من الجسارة الاقتصادية، في ظل وجود سوق موحدة وعملة موحدة وبنك مركزي موحد، أن نتصور وجود وزارة اقتصاد موحدة؟" وفق تصور تريشيه، سيكون للاتحاد الأوروبي الحق في نقض إجراءات الميزانية للدول التي تختار "الضلال البعيد". وقد تحققت أمنيته هذه جزئيا بصورة غير مباشرة، حيث أصبحت اليونان وأيرلندا والبرتغال خاضعة لحوكمة كل من الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي.

لكن الجدل يبقى قائما لأن أوروبا لا تزال بعيدة عن امتلاك الإرادة السياسية لتعزيز الاتحاد المالي. فالساسة يرون في ذلك صفقة صعبة التسويق أمام دعاة القومية. إلا أن غياب ردود أفعال القادة الأوروبيين سوف يقوم بدور التسويق تلقائيا مع استفحال الأزمة. وكما قال جان مونيه، وهو واضع حجر أساس الاتحاد الأوروبي، يوما: "الناس لا يقبلون التغيير إلا عند الضرورة، ولا يرون الضرورة إلا في الأزمات".

تدابير جذرية
تماما كما أجبرت الأزمات كلا من اليونان وأيرلندا والبرتغال على حشد الإرادة السياسية لتطبيق تدابير مالية جذرية، يمكن أن يحدث الأمر نفسه في بقية أرجاء أوروبا أيضا. سوف تؤدي الأزمات المالية المتنامية في مناطق مختلفة من الاتحاد إلى استنهاض الإرادة السياسية لدى فرنسا وألمانيا لقيادة منطقة اليورو إلى مرحلة جديدة من التوافق المالي.

وإن كان هذا الاحتمال يبدو بعيد المنال في الوقت الحاضر، فإن الكثير من الاحتمالات كانت مستحيلة الحدوث في الولايات المتحدة قبل أسبوع فقط من انهيار ليمان برذرز. وفي هذه المرة، ألن يكون من الأفضل أن تخرج أوروبا من حالة الإنكار التي تعيشها وتبحث عن حل هيكلي لتطويق الكارثة المالية المحتملة؟

الأسوأ على الأبواب
ما دامت قضية الإصلاحات الاقتصادية والمالية غير مطروحة بعد، فإن الأسوأ يقف عند الأبواب. وفي النهاية، سوف يفسح الظلام طريقا لفجر الإصلاح. وفي ذلك النهار الجديد، سوف يخرج إطار مالي جديد من رحم العملة الموحدة، لتتحول الوحدة النقدية من تجربة فاشلة إلى واقع مستدام.

لكن لسوء الحظ يبدو أن السبيل الوحيدة لبلوغ ذلك الفجر هي الخروج من ظلمة حالة الإنكار الحالية. فالحل الذي يواجه المقاومة الأكبر من بين حلول الأزمة هو الأكثر نجاعة. هذا هو التنافر المعرفي الذي تعيشه أوروبا. فالإجراءات الحالية لم تؤد إلى أكثر من تأجيل الكارثة. ويبقى المشهد الأخير واضحا: إما أن تختار أوروبا الدخول في وحدة نقدية أكثر تقاربا أو أن تضطر إليها اضطرارا.


*المدير التنفيذي للاستثمار في شركة غوغنهايم بارتنرز المحدودة.

ليست هناك تعليقات: