تضم هذه المجموعة 59 قصة قصيرة موزعة على أقل من 180 صفحة (أي بمعدل 3 صفحات للقصة الواحدة)، وقد صدرت في أواخر القرن الماضي وهي تمثل درجة عالية من النضج في كتابات هذا المبدع السوري الكبير.
تبدأ المجموعة باقتباس قرآني من سورة يوسف (قال يبني لا تقصص رؤياك على إخوتك) لعل الكاتب كان يقصد به تهيئة القارئ لمجموعة من الرؤى أو الأحلام، والحق أن هذه المجموعة- كما سائر المجموعات القصصية لزكريا تامر- تزاوج بين الواقع والحلم بأسلوب لا يتقنه سوى المبدعون الكبار.
تدور غالبية القصص في مكان محدد هو (حارة قويق) التي تشتهر "بأغنيائها الذين يقتلون أمهاتهم إذا كان القتل سيكفل لهم الحصول على المزيد من المال" وبأطفالها الذين "يجلسون في المقاهي ويدخنون النراجيل، ويغزون الحارات الأخرى..." وثمة شخصيات تظهر في عدة قصص بما يؤكد على الوحدة العضوية لغالبية قصص المجموعة. أما الزمان فهو غير محدد، ولعل الأحداث تدور في الثلث الأخير من القرن العشرين (وهو ذاته زمن كتابة القصص). وتشذ عن ذلك كله قصة (المطربش) التي تقع أحداثها في دمشق قبيل الاحتلال الفرنسي وأثناءه، وقصة (الطائر الأخضر) وبطلها أبوحيان التوحيدي.
وكما كانت حارة قويق المكان الجامع لغالبية قصص المجموعة، كانت السوداوية المفرطة هي السائدة في هذه المجموعة؛ حيث لا تكاد تخلو قصة من قصصها من ثيمات الموت أو الخيانة الزوجية أو السرقة أو الاغتصاب. والشخصيات في معظم القصص سلبية للغاية، مهزومة، محطمة، لا تستطيع اتخاذ قرار واضح ولا تستطيع مقاومة ضغوط المجتمع من حولها. المرأة حاضرة بقوة في القصص حتى لا تكاد تخلو من ذكرها إلا لماما، وهي في العموم مرتبطة بشرف الرجل وكرامته. والمشكلة أن شرف الرجل في معظم هذه الرجل مفقود، وكرامته ممتهنة.
وعلى غرار سائر الأعمال الأدبية لزكريا تامر، جاءت اللغة في هذه المجموعة سهلة ممتنعة؛ تستخدم مفردات رشيقة وبسيطة للغاية ولا تخلو من بعض الكلمات العامية أحيانا. وأحسب أن زكريا تامر لا يريد أن يصرف انتهاء القارئ عن المغزى الكلي للقصة ولذلك حرص على اختيار القليل الوافي ووضعه في جمل قصيرة مكثفة تغني القارئ عن الاسترسال في تنويعات المعاني. كما أن جميع قصص المجموعة تبدأ بجمل فعلية، وهذا يعني اقتحام الحدث مباشرة دون أي مقدمات، وهذا يزيد من كثافة الجرعة التي يقدمها زكريا تامر لقارئه. وهناك أيضا ما يمكن أن نسميه العلامة الفارقة لقصص زكريا تامر، وهي التي تتبدى في قدرته على استنطاق الطيور، والأشجار، والأعضاء البشرية، والشخصيات التاريخية من خلفاء وأدباء وشعراء، وثمة صور فنية خلابة يندهش المرء من قدرة الكاتب على تضمينها قصصا قصيرة صغيرة كهذه.
من القصص التي أعجبتني في هذه المجموعة (التصغير الأول): "كان عبدالنبي الصبان رجلا ضخما، طويل القامة، عريض الكتفين، اعتقل ليواجه اتهاما بأنه في كل لحظة يستنشق من الهواء أكثر من حصته المقررة، فلم ينكر، وأقر بأن السبب يرجع إلى أنه يملك رئتين كبيرتين هما وحدهما المسؤولتان، فأحيل توا إلى مستشفى ليغادره بعد أسابيع رجلا جديدا ذا قامة قصيرة وصدر ضيق ورئتين صغيرتين، يستهلك يوميا هواء يقل عن الحصة المقررة له رسميا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق