الجمعة، أكتوبر 21، 2011

بعد القذافي: الجزائر قد تكون حجر الدومينو التالي




يمثل مقتل معمر القذافي مصدرا للسعادة في ليبيا، وللقلق أيضا؛ حيث يخشى البعض من احتمالية تشبث المجلس الوطني الانتقالي بالسلطة، ويخشى البعض الآخر من سعي بعض الجهات الإسلامية لفرض أحكام الشريعة على البلاد، وهناك أيضا إمكانية تقسيم ليبيا إلى ثلاث دول.

لكن ثمة خطرا عظيما آخر يهدد ليبيا، ومصدره هو أقرب جيرانها، حيث تشعر الطغمة العسكرية الحاكمة في الجزائر بالرعب من احتمالية انتقال الروح الثورية إلى أراضيها. إلا أن السياسة الخارجية الأمريكية، رغم سقوط زين العابدين بن علي في تونس، لم تمنح الكثير من اهتمامها للجزائر، التي تعتبر منارة المغرب العربي.

وهذا خطأ واضح. فبعد مقتل القذافي وإجراء انتخابات الأسبوع المقبل في تونس، هناك احتمال قوي بأن تشهد الجزائر ثورة عربية جديدة؛ إذ أنها الآن محاطة بثلاث دول تشهد تحولات كبرى: ليبيا وتونس والمغرب التي شرع عاهلها بوضع الأسس لما يمكن أن يكون أول ملكية دستورية حقيقية في منطقة الشرق الأوسط. 


والجزائر ليست مجتمعا مغلقا، بل إن عدد الجزائريين المقيمين في الغرب ربما يفوق عدد المغتربين من أي جنسية عربية أخرى، وعادة ما يبقى هؤلاء على اتصال وثيق بأقربائهم وأصدقائهم داخل البلاد.

النفط الثمين
على الرغم من أن ثروة النفط والغاز لم تظهر آثارها على المواطنين العاديين، فقد ساهمت على الأقل في إطلاعهم – وخاصة النخبة منهم – على العولمة. يعتبر النفط الجزائري، الذي يتميز بانخفاض نسبة الكبريت في مكوناته، ذا قيمة عالية عند الدول الأوروبية المهووسة بمكافحة التلوث. وتشتري الولايات المتحدة ما يقارب 30 بالمائة من صادرات النفط الخام الجزائرية، وهذا يعادل 3.6 بالمائة من مجمل واردات النفط الأمريكية للسنة الماضية. وتعتبر الجزائر سادس أكبر مصدر في العالم للغاز الطبيعي، وتتجه معظم صادراتها من الغاز إلى أوروبا.

وبفضل خضوعها للاستعمار الفرنسي لمدة طويلة وتأثرها العميق بالغرب، كانت الجزائر من أوائل الدول العربية في مقاربة للديمقراطية. في العام 1989 قررت الدكتاتورية العسكرية الحاكمة - وهي مجموعة مفلسة روحيا، فاشلة اقتصاديا، ومكروهة في أوسط الشارع الجزائري – بتجربة إجراء انتخابات تعددية. لكنها عادت وقررت التراجع عن هذه التجربة بعد الفوز الكاسح الذي حققته الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات المحلية عام 1990، فكانت الحرب الأهلية. وقد أبيدت قرى بأكملها خلال الصراع الوحشي بين قوات النظام ومقاتلي الجماعات الإسلامية المتطرفة.

وحتى اللحظة الراهنة، لا يزال النظام في منأى عن موجة الثورات العربية الحديثة لأن الصدمة التي سببها حمام الدم آنذاك لا تزال قائمة. لكن الشباب يملكون ذاكرة ضعيفة، والثورة العربية الكبرى التي شهدها العام 2011 كانت من صنع شباب عانوا من الإحباط الشديد. وبالرغم من التحسن الذي شهده الاقتصاد الجزائري منذ العام 1990، فإن التحديات الاقتصادية ظلت تفوق قدرة الحكومة على خلق وظائف جديدة.

وعلى قمة النظام الاشتراكي الفاسد في الجزائر، نجح النظام في تشييد صرح معتبر من الرأسمالية البحتة. وقد قدم المؤرخ المنشق محمد حربي، وهو أحد قادة النضال ضد الاحتلال الفرنسي ويعيش الآن في المنفى بباريس، وصفا دقيقا لهذه الحال بقوله :"ليس لدى النظام ما يقدمه على المدى الطويل، وهو ليس معنيا بالتساؤل عما ستؤول إليه الجزائر ومواطنوها بعد عشرين عاما".

لا توجد في الجزائر أي استثمارات ناجحة عدا قطاعي النفط والغاز الطبيعي اللذين يمولان النظام البوليسي الحاكم. وقد هاجر من البلاد مئات الآلاف من المواطنين بسبب الفقر والفراغ وبطش قوات الأمن هناك.

وفي فرنسا وبلجيكا، صنع المغتربون عالما ديمقراطيا افتراضيا على شبكة الإنترنت. أما تونس، ورغم خشيتها من جارتها القوية، فهي تمتلك صحافة قوية لا تمتنع عن انتقاد الحكومة المجاورة فضلا عن انتقاد بطء التحول الديمقراطي من حولها.

تفويض وهمي
خلال السنوات العشر الأخيرة، بذل النظام الجزائري جهدا كبيرا للتظاهر بأنه يتمتع بتفويض شعبي من مواطنيه، لكن نزول الآلاف من الشباب إلى الشوارع بعدما شاهدوا ما جرى في مصر والجزائر أبدى أن الأمور ليست كما تبدو عليه.

إذا عادت الاضطرابات للجزائر فسوف تكون هذه المرة ناجمة عن اعتراض المواطنين المؤيدين للديمقراطية والعلمانية على الحكم الدكتاتوري العسكري وليس على الإسلاميين. والواقع أن الأحزاب الإسلامية في كل من تونس ومصر اكتسبت زخما إضافيا بعد سقوط نظامي الرئاسة مدى الحياة، وعاد ارتداء النقاب لينتشر في تونس بقوة حتى في أوساط الطبقات الأكثر ثراء.

كان انزعاج الطبقات الوسطى والعليا غير المتأسلمة من وحشية مقاتلي الجماعات المتشددة أحد الأسباب التي ساعدت الجيش على الاحتفاظ بالسلطة خلال التسعينيات، إذ بدا الاتجاه الإسلامي خيارا مفزعا في ظل مشاهد ذبح النساء والأطفال في القرى (أيضا هناك وحشية القوات الحكومية - كانت بعض فئاتها تسمي نفسها "فرقة الإبادة" – التي زرعت الرعب حيثما حلت). وهذا يعني أنه إذا فاز الإسلاميون في انتخابات تونس ومصر ولم تقع معجزة، فإن احتمالات وقوع اضطرابات في الجزائر سوف تتراجع.

لقد تغيرت طبيعة "التأسلم" منذ العام 1990. ففي ذلك الوقت، كانت قيادات جبهة الإنقاذ تشكك علنا في الحاجة إلى الديمقراطية لأن الشريعة تملك الحلول جميعها. أما اليوم فقد اختفت هذه الأصوات من الساحة الجزائرية فيما يمكن أن نعتبره ازدواجا في المعايير. كما أن الحركات الإسلامية الكبرى في تونس ومصر أصبحت تؤيد نظام الحكم التمثيلي، بل إن الأعضاء الأصغر سنا في حركة الإخوان المسلمين بمصر يجاهرون بتأييد الديمقراطية.

إن الهيكل الديني في الشرق الأوسط آخذ في التفكك بصورة متسارعة، حيث فقدت المؤسسات الدينية الكبيرة كثيرا من سطوتها بسبب علاقاتها الوثيقة مع النظم الدكتاتورية.

القوة الدافعة
وقد أدى هذا في مصر إلى ظهور جيل من الإسلاميين الشباب يؤيدون الديمقراطية في العلن ويتحدون نظرائهم من الجيل القديم في "اليسار" وكذلك نشوء بعض الجماعات المنشقة في أقصى "اليمين". هذه النزعة الفردية في الهوية الإسلامية "رأيي لا يقل صوابا عن رأيك" مفهوم طارئ على الإسلام، وهو القوة الدافعة للثورات التي يشهدها الشرق الأوسط.

أما في الجزائر فنحن لا نعلم الموقف الحقيقي لورثة الجبهة الإسلامية للإنقاذ لأن النظام أسكت كل صوت للفرد وللدين ولصندوق الاقتراع. لكننا نعلم أن علمانيي الطبقة الوسطى العربية وخريجي الجامعات من الشباب توقفوا عن إعطاء دعم لا محدود للدكتاتوريين العلمانيين خوفا من أن يحل محلهم إسلاميون. لقد شارفت حقبة الخوف من تحول الديمقراطية إلى الحكم الديني "الخميني مثالا" على الانتهاء.

لقد أدى كل هذا إلى إثارة القلق لدى جنرالات الجزائر. إذا أدت انتخابات تونس ومصر إلى تمكين الإسلاميين فإن لنا أن نتوقع قيام حكام الجزائر بالعمل سرا على إشاعة عدم الاستقرار في ليبيا وإنشاء منطقة "فوضوية" عازلة توقف زحف الحكومات الشعبية.

وهناك حقيقة لا جدال فيها: إذا وصلت الثورات إلى الجزائر فإن كراهية الولايات المتحدة سوف تتضخم. قبل عشرين عاما من الآن كانت فرنسا تمثل الشر المطلق، أما اليوم فقد حلت مكانها الولايات المتحدة باعتبارها الداعم الأكبر للاستبداد.

في العام 2002 ذكر مساعد وزير الخارجية الأمريكي وليم بيرنز على هامش زيارته للجزائر أن الولايات المتحدة "تستطيع أن تتعلم الكثير من الجزائر في مجال مكافحة الإرهاب"، وما يزال هذا التوجه قائما في عهد الرئيس باراك أوباما. ففي الشهر الماضي قام منسق مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية دانييل بنجامين بزيارة الجزائر لحضور مؤتمر متخصص بمكافحة الإرهاب استضافته الحكومة هناك، وقال إن ثمة فرصة "لكي يستفيد المسؤولون لدينا من تجارب الدول الحليفة لنا، وبخاصة شركائنا في شمال إفريقيا".

وأضاف بنجامين "إن التعاون الثنائي بيننا وبين الحكومة الجزائرية في الحرب الإرهاب هو الآن أقوى من أي وقت مضى"، مؤكدا أن هذا التعاون يشمل قضايا "الدبلوماسية العامة، والاقتصاد، والمساعدات العسكرية".

لم يدخر الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة في استخدام حجة مكافحة الإرهاب –الحرب ضد القاعدة- لتبرير القمع السياسي والانتهاكات الشنيعة لحقوق الإنسان. ولئن كانت مثل هذه التصريحات التي يطلقها المسؤولون الأمريكيون تعمل على تقوية النظام فإنها في الوقت نفسه تثير غضب المواطنين.

تعيش الجزائر منذ العام 1990 في حالة من الغليان المستمر، وهي توشك على الانفجار في أي لحظة، ولعل الثورتين اللتين شهدتهما تونس وليبيا تساهمان في تقديم موعد هذا الانفجار. وعندها فإن الصدمة التي ستشهدها أسواق الطاقة والسياسة الأمريكية في المنطقة لن تكون صغيرة.

 
* مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية

ليست هناك تعليقات: