الأربعاء، نوفمبر 23، 2011

كيف يعبث مؤشر داو جونز بتاريخ وول ستريت




في يوم 23 نوفمبر 1954 تمكن مؤشر داو جونز الصناعي، بعد ربع قرن من الانتظار، من تجاوز المستوى القياسي الذي بلغه يوم 3 سبتمبر 1929. وظل هذا الفاصل الزمني هو الأطول بلا منازع من بين الفترات الزمنية الفاصلة بين المستويات القياسية عبر تاريخ المؤشر الذي يمتد لمائة وخمسة عشر عاما. وقصة هذا الانتعاش الطويل تخبرنا الكثير عن دور الأرقام في تشويه نظرتنا إلى الماضي.

في أحد أيام العام 1929 ارتفع مؤشر داو ليبلغ مستوى قياسيا عند 381.17 نقطة، وفي مساء اليوم التالي هبط المؤشر فجأة مع انتقال ملكيات مليوني سهم لبعض الشركات الصغيرة خلال الساعة الأخيرة من التداول. وشهدت الأسابيع الستة التالية هبوطا مستمرا للمؤشر إلى أن انهار يوم 24 أكتوبر وسط تداولات فاقت المعدلات الطبيعية. وفي ذلك اليوم تدخل عدد من المصرفيين بطلبات شراء بلغت قيمتها 20 مليون دولار فعاد السوق للاستقرار.

وبعد خمسة أيام فقط، في 29 أكتوبر، لم يستطع أحد أن يوقف أكثر الانهيارات شهرة في تاريخ وول ستريت. بلغ حجم التداول يومذاك مستوى قياسيا، 16 مليون سهم، لم يتكرر ثانية حتى العام 1968.

في البداية لم يكن الأمر يعدو مجرد انهيار طبيعي في أسعار الأسهم وكساد محدود، لكنه سرعان ما اشتد عوده وتحول إلى ما يعرف الآن باسم الكساد العظيم. لقد سحب داو الاقتصاد معه إلى الهاوية. وهبط المؤشر إلى الحضيض يوم 9 يوليو 1932 عندما أغلق عند 41.22 نقطة، منخفضا 89 بالمائة عن أعلى مستوى سجله في العام 1929، وهو مستوى لا يزيد سوى ربع نقطة مئوية على أول إغلاق للمؤشر في عام 1896.

استمر الكساد طيلة السنوات العشر التالية، ولم ينته إلا بنشوب الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من أن الحرب أدت إلى ارتفاع هائل في الناتج المحلي الإجمالي واختفاء البطالة تقريبا، فإن داو لم ينتعش، حيث أنهى عام 1942 عند مستوى 119 نقطة، وهو لا يزيد كثيرا على المستوى الذي أغلق عنده بنهاية عام 1933.

لماذا استغرق انتعاش داو مدة طويلة؟

أحد الأسباب هو أن الضرائب الباهظة التي فرضتها الدولة أثناء الحرب أتت على معظم الأرباح. كما أن الأمريكيين، الذين عانوا الأمرين في عام 1929، كانوا لا يزالون متوجسين من العودة لاستثمار أموالهم في وول ستريت، وفضلوا وضع أموالهم في سندات الحرب وحسابات الادخار. وبعد انتهاء الحرب أطلقت ميريل لينش حملة “وول ستريت إلى الشارع العام” عبر السعي وراء الحسابات الصغيرة وتدريب أعداد كبيرة من الممثلين المسجلين، وحينئذ بدأ الناس ينظرون من جديد إلى وول ستريت كمكان مناسب لاستثمار أموالهم.

لكن مؤشر داو جونز الصناعي كان بذاته جزءا من المشكلة. تم إطلاق هذا المؤشر عام 1896، وهو يحمل هذا الاسم نسبة إلى كل من تشارلز داو، ناشر مجلة وول ستريت جورنال، وإدوارد جونز، وهو خبير إحصائي. ويعتبر دو جونز اليوم أقدم مقياس متواصل لأداء سوق الأسهم الأمريكية، وبالتالي فلا مفر من اعتباره نافذة على تاريخ وول ستريت.

لكن هذه النافذة ربما تكون ضبابية بعض الشيء. ففي العام 1896 لم يكن قد تم اختراع الحاسوب بعد. وبدلا من ذلك، كان أحدهم في نهاية كل يوم تداول يقوم بجمع أسعار 12 سهما متداولا في داو ويقسم المجموع على 12 لكي يحصل على الوسط الحسابي. (في العام 1928 توسع داو ليشتمل على أسهم 30 شركة). ومع دخول وخروج عدد من الشركات، تم اعتماد معادلة حسابية موحدة لضمان استمرارية المؤشر، على الرغم من أن هذه الطريقة لم تكن ناجعة تماما خاصة في السنوات الأولى من عمره.

كان داو في البداية مؤشرا صناعيا بحتا، إلى جانب مؤشرين منفصلين للسكك الحديدية والخدمات، ولكنه سرعان ما تحول إلى مؤشر يحاول تمثيل الاقتصاد الأمريكي بأكمله. واليوم، يتضمن مؤشر داو أسهم شركات لا علاقة لها بالصناعة مثل (Home Depot Inc.) و(JPMorgan Chase & Co.)، فضلا عن (General Electric Co.) و(Craft Foods Inc.). ولكي يضمن استمرارية تمثيله للاقتصاد، يقوم داو جونز بين الحين والآخر باستبعاد بعض الشركات من المؤشر وإحلال أخرى في مكانها.

في عام 1939 تم استبعاد شركة (International Business Machines Corp.) من المؤشر واستبدلت بها شركة (AT&T). وكانت تلك خطوة مصيرية. فعلى مدى السنوات الأربعين التالية، قبل إعادة (IBM) إلى المؤشر عام 1979، تضاعف سعر سهم شركة (AT&T) الخدمية ثلاث مرات. أما شركة (IBM) فقد توسعت بشكل كبير خلال الحرب ثم انتقلت إلى مجال الحواسيب الواعد، وقد ارتفع سعر سهمها بنسبة قاربت 22,000 بالمائة بين عامي 1939 و1979، لتمثل واحدة من كبريات قصص النجاح في تاريخ وول ستريت.

لو أن داو جونز احتفظ بأسهم (IBM) بحوزته لاختلف تاريخه – وبالتالي تاريخ وول ستريت في سنوات ما بعد الحرب – اختلافا جذريا. لو فعل داو جونز ذلك لتمكن من العودة إلى المستويات القياسية لسنة 1929 بسرعة أكبر، ولاستطاع كسر حواجز مهمة – مثل حاجز 1,000 نقطة – في وقت أسبق.

إنه مثال جميل على دور الأدوات الإحصائية، مع التقدير لأهميتها، في تحديد وتشويه نظرتنا إلى التاريخ.



*مؤلف كتاب “نعمة هاملتون: الحياة غير الاعتيادية لديوننا القومية”.

ليست هناك تعليقات: