المقدمات الفاسدة لا تؤدي إلا إلى نتائج فاسدة. هكذا قال الأقدمون ولم يختلف معهم أحد من عقلاء المحدثين. وفي السياق ذاته: التخبط في استخدام المفاهيم يجعل صاحب الحق ظالما، ويحيل الظالم مظلوما.
هذه بحد ذاتها مقدمة سوف أنطلق منها لمناقشة بعض عناصر الخطاب المعاصر في تناول بعض القضايا الملحة، وأبرزها على الإطلاق قضية فلسطين ثم قضية سوريا.
عندما هاجم المحتلون بطائراتهم قطاع غزة المحاصر خرج فينا من يقول: إنهم يقتلون المدنيين الأبرياء العزل! وأخذ هؤلاء يترجمون مقولتهم هذه إلى اللغات الأجنبية ويخاطبون بها الغرب محاولين التأثير على وعيهم الحضاري، وضميرهم الأخلاقي. ولقد رأيت استجابة لا بأس بها من الجانب الآخر لهذا النداء، وأخذ البعض منهم يصيحون بحكوماتهم أن ألجموا إسرائيل فقد أوغلت في دماء المدنيين العزل من الفلسطينيين! وكما ينعكس الضوء في المرآة ارتدت هذه الصورة إلينا معكوسة، فصرنا يحدث بعضنا بعضا بأن إسرائيل تقتل المدنيين، وصرنا كمن يلتمس لها العذر إن قتلت العسكريين وحدهم، كأن قتلها للعسكريين أمر لا نستطيع الاختلاف معه، أو على الأقل لا نستطيع تسويقه أمام العالم للتعاطف مع قضيتنا!
قلت: لا جدال في أن المدنيين الأبرياء لا ذنب لهم ليقتلوا بهذه الصورة البشعة، ولا شك في أن كل قطرة دم تسيل من العروق، لا بل كل دمعة تنزل من المآقي، لهي في ذمة كل امرئ مسلم تقاعس عن القيام بواجبه تجاه أهله في تلك الأرض الطيبة. لكن ماذا عن "العسكريين"؟ ألا بواكي للعسكريين؟ لماذا لا نتوجه إلى العالم بالقول إن الطائرات تقصف المجاهدين في سياراتهم وتفجرها تفجيرا؟ لماذا نكتفي بذكر المدنيين العزل ونغض الطرف عن المقاتلين المسلحين بأبسط أنواع الأسلحة لا لشيء سوى أننا نريد من العالم التعاطف فحسب. هذا هو هدفنا: التعاطف فحسب، وبئس الهدف هو! وهذا الكلام ينسحب بالدرجة نفسها على من يقول: "إنهم يقتلون نساءنا وأطفالنا وشيوخنا" ويغض الطرف متعمدا عن الشباب، كأن الشباب هدف مشروع للاحتلال بينما الآخرون أهداف ممنوعة! فهل في هذا منطق؟ إننا بهذا نتصرف كمن يلتمس للعدو العذر ويضحي بشبابه ومجاهديه لكي يتجنب فقدان التعاطف العالمي، ولا أدري ما الذي جنيناه من هذا التعاطف المزعوم!
أما عن سوريا فحدث ولا حرج! يقول القائلون: لقد كشفت الثورة السورية عن الوجه القبيح لأعدائنا الحقيقيين: إيران وحزب الله وروسيا وإيران، وأثبتت هذه الثورة المباركة أن هؤلاء لا يريدون بنا خيرا بل يتآمرون علينا ليل نهار. قلت: مقدمتكم صحيحة لا يجادل عاقل في صحتها، بل إننا كنا ننادي بها من قبل على رؤوس الأشهاد، ولكن هذه المقدمة لا تصلح وحدها للاستدلال على أن النظام السوري خائن متآمر وأن قتاله واجب! أما علمتم أن الوجه القبيح لأعدائنا الآخرين مكشوف مفضوح منذ عشرات السنين – دون ثورة مباركة ولا ما يحزنون – ولكن رؤوس الأنظمة التي تحكمكم لا ينفكون يتعاونون معهم ويسيرون في ركبهم ويتبعونهم كما تتبع الشاة راعيها؟ بلى علمتم ولا تستطيعون أن تنكروا كلمة مما قلت! فلماذا إذن لم تحرضوا عليهم وتتهموهم بالخيانة العظمى؟ أحرام على النظام السوري حلال على أنظمتكم؟ بل كلهم سواء، وكلهم في درك الخيانة ساقطون!
وأعود فأقول إن للبيان سحرا لا يدانيه سحر، وأدوات هذا السحر هي الكلمات. ومثل هذا ما كنت ذكرته في مقالة سابقة عن مفردة يتداولها البعض منا دون أن يتأملوا في معناها: "التطهير العرقي" واقترحت استخدام مفردة "التدنيس" بدل "التطهير". الكلمات كالألغام إن لم تتنبه لها قتلتك، وإن استخدمتها على الوجه الصحيح كانت لك وقاية من الأعداء. فكيف نريد النصر ونحن ننطلق من مقدمات فاسدة ونحتج على قتل المدنيين بينما نصمت عن اغتيال العسكريين؟ كأن المدنيين أبرياء والعسكريين مجرمون! وكلهم أبرياء، وكلهم نحسبهم عند الله شهداء.
ويحضرني مثال آخر على هذا التخبط في قضية الأسير خضر عدنان والأسيرة هناء شلبي، فك اللهم أسرهما وسائر الأسرى وأعادهم جميعا إلى أهلهم سالمين غانمين منصورين. فقد تنادى المغردون والمصوتون والكتاب والإعلاميون لتبني قضيتهما والدفاع عنهما وإيصال قضيتهما للعالم أجمع، ولا شك في أن النوايا كانت حسنة. قال بعضهم: نحتج على سياسة الاعتقال الإداري لأنها سياسة ظالمة. وقال بعضهم: الأسير خضر عدنان والأسيرة هناء شلبي معتقلان ظلما ضمن سياسة الاعتقال الإداري دون توجيه اتهام لهم. وأذكر أنني حاورت أحدهم فسألته: هل تريد للأسيرين أن يحاكما أم تريد أن يطلق سراحهما؟ استغرب المسؤول سؤالي وبادر بالقول متعجبا: بل أريد إطلاق سراحه! قلت: فلماذا إذن تحتج على الاعتقال الإداري وتصمت عن الاعتقال بحد ذاته؟ أنت ترسل للعالم رسالة مفادها أن الاعتقال الإداري هو ما يثير اعتراضك، وأن الاعتقال بحد ذاته ليس مشكلة ما دام الأسير يخضع للمحاكمة! أليس فينا من يعي أن كل ما يفعله الاحتلال باطل باطل سواء أكان الاعتقال إداريا أو مدنيا أو عسكريا أو غير ذلك؟ هل نلتمس للعدو عذرا إن كانت إجراءات المحاكمة سليمة مثلا؟
يدهشني والله أن أرى وأسمع من يتخذ موقف الحياد فينا وينسى أن لا حياد مع عدو! المعركة بيننا وبينهم معركة وجود لا معركة حدود جغرافية، والحياد في هذا النوع من المعارك لا يندرج أبدا ضمن حسن اختيار المواقف!
ويؤلمني أيضا أننا بتنا بتخاطب مع بعضنا بلغة التخاطب مع الآخر: فترانا نقول لبعضنا إن المجتمع الدولي يرفض كذا ولا يمكن أن يسمح بكذا، وننسى أن تكرار الحديث بهذه الصيغة يجعل المجتمع الدولي حاضرا بين ظهرانينا نأتمر بأمره ونحتج بحجته، رغم أن هذا المجتمع لم يعمل يوما لصالحنا، ولا أحسبه يعدنا من أهله أصلا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق