أصابت وكالة ستاندرد آند بورز عندما خفضت
التصنيف الائتماني لفرنسا وسبع حكومات أخرى من منطقة اليورو، لكنها أخطأت عندما
ثبتت تصنيف ألمانيا عند مستوى (AAA).
اليورو سوف ينهار لا محالة، والفوضى التي
ستتبع سقوطه سوف تهز أركان أقوى الحكومات.
لا شك في أن الإنفاق الحكومي الباذخ تسبب في
الكثير من المشكلات لحكومات فرنسا وغيرها من الدول المتوسطية، لكن المستثمرين
يعلمون أيضا أن الإجراءات التقشفية وحدها لن تنقذهم من الإفلاس وأن تكاليف إعادة
تمويل الديون السيادية وضمانها قد ارتفعت ارتفاعا هائلا.
أدى تخفيض الإنفاق الحكومي ورفع الضرائب إلى
إغراق فرنسا وعدد من الدول المتوسطية في كساد عميق، بحيث لا يتسنى للعوائد
الضريبية أن تكون كافية لتحقيق أهداف تخفيض العجز. الحل الوحيد لإنعاش هذه
الاقتصادات هو إدخال تحسينات سريعة على قطاع التصدير، لكن الإصلاحات العمالية المقترحة
من شأنها أن تعمل على إضعاف التقدم نحو القدرة التنافسية المنشودة. كما أن تطبيق
هذه الإصلاحات لن يكون سهلا مع ارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 10 بالمائة وربما
20 بالمائة.
عاجلا أم آجلا، سوف يتساءل اليونانيون والإسبان
والإيطاليون: ما دام من المفترض أن يعمل اليورو على تعزيز الازدهار الاقتصادي
فلماذا تنخفض الأجور وترتفع الضرائب وتزداد البطالة تفشيا؟
من المتوقع أن تفرز الاضطرابات السياسية
حكومات تعد مواطنيها بالتخلي عن اليورو وإعادة تقييم الديون السيادية بالعملات
المحلية بعد بعثها من العدم. بعد ذلك سوف تبدأ هجرة رؤوس الأموال وتخفيض أسعار
الفائدة، ما يؤدي لتكبيد الدائنين خسائر فادحة. أما السندات السيادية الأوروبية
المقيمة بالدولار أو الين فسوف تشهد هبوطا مدويا.
بمجرد تخلي إيطاليا عن اليورو سوف تحذو دول
أخرى حذوها. وسوف يتعرض المستثمرون الذين يملكون سندات صادرة عن صندوق الإنقاذ
الأوروبي لأسوأ الخسائر. لو كانوا أكثر ذكاء لاشتروا عملة الكونفدرالية (الدولار
الأمريكي القديم) واستفادوا من ارتفاع قيمتها.
عام 1999 تم اعتماد قيمة اليورو مقابل
الدولار عن طريق حساب متوسط أسعار عملات الدول المساهمة فيه، ثم بقي معوما في أسواق
العملات. لكن القادة الأوروبيين لم يستطيعوا أن يجاروا التغيرات التي شهدها
العالم.
أدى النمو الاقتصادي السريع في كل من الصين
والهند والبرازيل وحتى بولندا إلى فتح أبواب ضخمة أمام صادرات التكنولوجيا
والخدمات المالية من ألمانيا ودول الشمال الأصغر حجما لكنه أدى لخلق منافسة جديدة على
الصناعات الأقل تطورا والأكثر اعتمادا على العمالة في فرنسا وإيطاليا وبقية
اقتصادات جنوب أوروبا.
ومع مرور الوقت، بات اليورو أقل من قيمته
الحقيقية في ألمانيا ودول شمال أوروبا وأكبر من قيمته في دول المتوسط وفرنسا. وقد
أتاح هذا لمصدري ألمانيا مضاعفة صادراتهم وأرباحهم، بينما ارتفعت نسب البطالة
وأصبحت أكثر استدامة في فرنسا والجنوب.
لو كانت العملات الوطنية قيد التداول لأدى
تخفيض أسعارها إلى جعل فرنسا وجنوب أوروبا أكثر قدرة على المنافسة، حيث ستصبح
الواردات أغلى ثمنا وسيزداد التصدير ويتم خلق وظائف جديدة. لكن استخدام عملة واحدة
في معظم أنحاء أوروبا، أدت القوة التصديرية الهائلة التي تتمتع بها ألمانيا ودول
شمالي أوروبا إلى الحيلولة دون وقوع أي تغييرات في أسعار العملة. وفي فرنسا وجنوب
أوروبا تدخلت الحكومات لدعم التوظيف والدخل، وأنفقت واقترضت مبالغ ضخمة وصلت معها أعباء
الديون السيادية حدا لا يطاق.
إضافة لما سبق، عندما اتفق الزعماء
الأوروبيون على اعتماد اليورو، لم يكونوا يدركون أن الناخبين في فرنسا ودول
المتوسط ينظرون إلى الديمقراطية الاجتماعية بمنظار مختلف عن ذلك الذي يستخدمه
نظراؤهم في الشمال.
بمقاييس متعددة، يعطي الناخبون في ألمانيا
ودول الشمال أهمية كبيرة لقوة القطاع الخاص ويتوقعون من الحكومات أن تحتفظ بشبكات
أمان قوية، بينما يعطي الناخبون في فرنسا ودول الجنوب أهمية كبيرة لقوة الحكومة
ويتوقعون من القطاع الخاص أن يدفع ثمن ذلك.
وكما تبين خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي
باراك أوباما، فإن الرأي الأخير يمثل وصفة للنمو الاقتصادي البطيء وفقدان الوظائف وارتفاع
درجة البطالة، مما يحتم وجود عجز حكومي هائل لحماية النظام المتداعي من الانهيار
الشامل.
وكما يتبدى في دول المتوسط، وهو ما سيظهر
قريبا في فرنسا، فإن النظام بأكمله سوف ينهار حتما عندما يشرع المستثمرون
بالمطالبة بأسعار فائدة مرتفعة للغاية على السندات الحكومية.
بغياب اليورو، سوف تتمكن حكومات فرنسا ودول
المتوسط من إصدار سندات قرض بعملاتها المحلية، وزيادة الاعتماد على البنوك
المحلية، وطباعة المزيد من المال. لا شك في أن الجمع بين التضخم وتخفيض سعر العملة
سوف يؤدي إلى تراجع المستويات المعيشية، لكن الوضع سيكون أفضل بكثير من العيش في
ظل إجراءات التقشف وخطط الإنقاذ التي تفرضها ألمانيا.
وفي الختام، فإن العملة الموحدة ليست سوى
مجرد حبر على ورق ولا يمكنها أن تفرض تغيرات ثقافية تجعل الفرنسيين والإيطاليين
وغيرهم يفضلون الأمان الوظيفي والتقاعد المبكر على الازدهار الألماني.
وفي ظل هذه الظروف فإن اليورو لن ينجح، وسوف
يؤدي إصرار الحكومتين الفرنسية والألمانية على رفض العودة للعملات القديمة إلى وقوع
اضطرابات مالية وخسائر ضخمة يتكبدها المستثمرون بعد انهيار العملة الموحدة. وإذا
وقعت تلك الفوضى فلن يستطيع أحد، ولا حتى ألمانيا ولا هولندا ولا بقية دول الشمال
الأوروبي أن يضمن استمرار الازدهار الاقتصادي والقدرة على تجنب الوقوع في فخ العجز
المالي الحكومي، وعندئذ سيكون الإفلاس أمرا لا مفر منه.
هذه المخاطر المنهجية تقتضي ألا تكون أي دولة
من دول اليورو مستحقة لدرجة (AAA) على مقياس التصنيف
الائتماني.
*بروفيسور في كلية سميث للأعمال بجامعة
ماريلاند، وهو كبير الاقتصاديين سابقا في هيئة التجارة الدولية الأمريكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق