"إذا قصفنا بالقنابل مدينة ثم أعدنا بناءها، فسوف تظهر لنا المعطيات ارتفاعا كبيرا في النمو الاقتصادي".
هذه الكلمات يمكن أن تلخص كتاب "اعترافات قاتل اقتصادي" الذي ألفه جون بيركنز، وهو رجل كان يعمل في إحدى الشركات الأمريكية التي دأبت على الربط بين الاقتصاد والسياسة بأن تجعل من الاقتصاد منفذا تمر عبره السياسة. ولا تكمن المشكلة في هذا المبدأ بحد ذاته وإنما تكمن في تحلل العاملين في هذين المجالين على حد سواء من أي مبدأ أخلاقي أو عطف أو تعاطف.
يروي المؤلف في كتابه، الذي يبدو شبيها بسيرة ذاتية موجزة، حكايات متعددة عن عمله كقاتل اقتصادي "Economic Hitman" في دول مختلفة من هذا العالم خلال فترة السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الذي مضى. ويستعرض بيركنز بشيء من التفصيل كيفية انخراطه في العمل مع شركة مين وتدرجه في المناصب حتى اقترب كثيرا من القمة. وبالطبع لم يكن طريق الصعود معبدا بالورود بل كان لا بد من بعض المتاعب.
ولعل بيركنز لا يكشف سرا عندما يعلن أن غزو العراق كان بتدبير من أصحاب شركات النفط شركاء بوش وتشيني، وأن غزو بنما كان عملية وحشية قذرة ليس لها أي مبرر مقبول على الإطلاق، وأن قتل رؤساء الدول الأخرى فن لم يتقنه سوى الأمريكيين. لكن المفاجأة الحقيقية في هذا الكتاب هي امتنع، عن قصد كما يبدو، عن ذكر علاقة بلاده بأسامة بن لادن..ربما لأن هذا الشخص غير موجود أصلا كما أردد دائما.
ومما يثير الحنق في النفس أن المؤلف كان يلجأ إلى أصدقاء من جنسيات مختلفة، لا أراهم إلا من نسج خياله، يوجد واحد منهم على الأقل في بلد يزوره. هؤلاء الأصدقاء طيبون ودودون يحبون الشعب الأمريكي لكنهم يكرهون سياسات قادته، يتقنون اللغة الإنجليزية ويعرفون الكثير عن تاريخ أمريكا كأنما عاشوا فيها. والأهم من هذا وذاك أن السيد جون في كل مرة يستمد الإلهام من كلماتهم المضيئة!
ومما يثير الضحك عند قراءة هذا الكتاب أن مؤلفه يدافع عن نفسه فيه دفاعا مستميتا رغم أنه يحاول الظهور بمظهر العاجز أمام القارئ..فهو تارة يتحدث عن تأنيب الضمير، وتارة يتحدث عن إغراءات البقاء في المنصب. وكلما حسبنا أنه سيترك منصبه وجدناه، على النقيض، يقفز مراتب وظيفية إلى الأعلى! وبعد عقود طويلة من العمل كقاتل اقتصادي قرر صاحبنا أن يستجيب لنداءات ضميره الحي ويكتب هذا الكتاب ليروي للعالم قصة لا يعرفها أحد!
إن هذا الكتاب نموذج رائع للصورة النمطية التي نرى بها الأمريكيين في هذا العصر. ولعل أهمية هذا الكتاب تأتي من كونه يزيل الفوارق بين الحاكم والمحكوم عندهم..فالقاتل الاقتصادي، وهو ليس أبدا من الطبقة الحاكمة ولا من السياسيين، يمهد الطريق لأهل السياسة كي يكملوا ما بدأه أهل الاقتصاد. هذا الأمريكي، الذي أنهيت للتو كتابه، يظن أنه الوحيد في العالم الذي يملك الصورة كاملة بينما يملك الباقون أجزاء متناثرة لذا فهم لا يعلمون وهو يعلم. هذا الأمريكي على استعداد لتدمير نفسه وأسرته والناس أجمعين في سبيل المال والنفوذ، ولا مانع لديه إطلاقا من الظهور بعد ذلك بمظهر الضحية كأنما لم يملك من أمره شيئا. هذه هي أمريكا في العصر الحاضر: أمة بلا أخلاق.
ميزة هذا الكتاب أن فصوله قصيرة متلاحقة صيغت بلغة سلسة خفيفة لا يملها القارئ. لكن النقطة السلبية الكبرى فيه هي أنه سطحي بدرجة هائلة يمتنع عن الخوض في تفاصيل أي شيء. وأعني بالتفاصيل المعلومات الفنية عن المشروعات التي يتحدث عنها دون أن يحدد شيئا منها، وربما كان هذا خوفا من الملاحقة القانونية، أو رغبة في الوصول إلى أكبر شريحة من القراء دون إرهاقهم بالتفاصيل المملة، أو لغاية في نفس الكاتب لم يفصح عنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق